أهداف التجسد الإلهى

أولاً: تجسد ليعلمنا
فهو بحسب تعبير القـديس أثناسيوس – المعلم الصالـح الذى ينـزل إلـى مستـوى تلاميذه، ولا يتوقع من تلاميذه أن يرتفعوا – بقدرتهم الذاتية – إلى مستواه.
وفى هذا يقول القديس أثناسيوس: ما المنفعة للمخلوقات إن لم تعرف خالقها؟ أو كيف يمكن أن تكون عاقلة، بدون معرفة كلمة وفكر الآب، الذى أوجدها فى الحياة؟ لأنه إن كانت معلومات البشر محصورة فى الأمور الأرضية، فلا شئ يميزهم عن الحيوانات عديمة النطق. نعم، ولماذا خلقهم الله.. لو كان يريدهم أن لا يعرفوه؟ (فصل 2:11 من تجسد الكلمة). هنا كان التجسد سبيلاً إلى معرفة الناس لله، كما يقول معلمنا بولس الرسول: “اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِى هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِى ابْنِهِ” (عب 2،1:1)، لاحظ الفرق بين حرفى الجر بالأنبياء وفى ابنه… الأنبياء مجرد وسائل، ولكن الابن حضور شخصى.
“اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِى هُوَ فِى حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ” (يو 18:1)… وكلمة حضن فى الأصل اليونانى تعنى عمق الأعماقDeep Bosom .
يقول العظيـم أثناسيـوس الرسولى: “كمـا أن المعلـم الصالــح، الـذى يعتنـى بتلاميذه، يتنازل إلى مستواهم… هكذا فعل كلمة الله” (فصل 1:15 فى تجسد الكلمة).
ثانياً: تجسد ليفدينا
– فبالتجسد يستطيع إلهنا العظيم أن يصير فادياً لنا، متمما كل المواصفات المطلوبة فى الفادى.
– فإذا كانت خطية آدم ارتكبها الإنسان، فلابد للفادى من أن يكون إنساناً…
– وإذا كانت أجرة الخطية موت، فلابد لذلك الإنسان أن يموت…
– وإذا كانت خطية آدم غير محدودة، لأنهـا ضـد الله غير المحدود، فلابد للفادى أن يكون غير محدود.
– وإذا كان فاقد الشىء لا يعطيه، فلابد للفادى أن يكون بلا خطية، وإلا صار محتاجاً لمن يفديه.
– وإذا كان لابد من إعادة صورة آدم إلى أصلها، وإعادة خلق الإنسان من جديد، ليصير خليقة جديدة، فلابد للفادى أن
يكون خالقاً…
كيف يمكن أن تجتمع هذه الصفات ؟!
هل فى الله الروح فقط؟
هل فى الإنسان الجسدى فقط؟
لابد من إتحاد الله بالإنسان، لابد من التجسد، لكى يكون هذا الفادى (الإله المتأنس) قادراً على وفاء مطاليب ومواصفات الفادى :
1- فبلاهوته : يكون غير محدود. بلا خطية. الخالق.
2- وبناسوته يصير : إنساناً يموت.
بل ولابد للفادى أن يموت مسفوك الدم،لأن القاعدة تقول “وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ” (عب 22:9).
بل لابد للفادى حينما يسفأك دمه أن يكون ذلك عن طريق الصليب، لأنه مكتوب “مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ” (غل 13:3) ليحمل لعنتنا على كتفيه “مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ” (تك 17:3).
من هنا تجسد الرب يسوع، وولد فى مذود من أجلنا، لكى بتجسده: يموت نيابة عنا. سافكا دمه لأجلنا. مصلوباً وحاملا لعنتنا.
ويشرح القديس أثناسيوس موضوع التجسد بصورة جميلة فى “تشبيه الفنان” حين يقول: إن تلطخت الصورة المرسومة على الخشب بالأدران من الخارج، وأزيلت.. فلابد من حضور صاحب الصورة نفسه ثانية، لكى يساعد الرسام على تجديد الصورة على نفس اللوحة الخشبية لأنه إكراماً لصورته، يعز عليه أن يلقى بتلك اللوحة، وهى مجرد قطعة خشبية بل يجدد عليها الرسم (فصل 1:14).
وهنا يؤكد لنا القديس أثناسيوس ما يلى :
1- أن الله خلقنا على صورته، فى الحكمة والبر والروحانية والخلود.
2- أن الصورة مرسومة على الخشب، أى جسد الإنسان الترابى.
3- أن الأدران جاءت من الخارج ولوثت الصورة وأزالت معالمها الجميلة، ويقصد طبعاً الخطية وغواية الشيطان.
4- هنا تدخل صاحب الصورة الأصلى، وجاء بنفسه إلى عالمنا، ليستطيع الرسام تجديد الصورة طبقاً لملامحه… وهذا يعنى التجسد والفداء.
5- والصورة المعادة لن ترسم على لوحة جديدة، بل على نفس اللوحة القديمة، أى الإنسان نفسه، ليس بأن يموت ويخلق الرب، خليقة إنسانية أخرى… لأن فناء الإنسان الأول بالموت يتعارض مع حكمة الله (لماذا خلقه ليموت؟) ومع محبة الله (الذى لم يسامح آدم) ومع كرامة الله (إذ سيفرح الشيطان بفشل الخليقة الأولى التى هى آدم وحواء، وينتظر ليفشّل الخليقة التالية).
ثالثاً: تجسد ليتحد بنا
هذا هو الهدف الثالث للتجسد… ويشرحه القديس أثناسيوس فى تشبيه القشة والأسبستوس حين يقول: المعلوم أن القش تفنيه النار بطبيعة الحال فلنفرض :
1- أن إنساناً أبعد النار عن القش، فإن القش ولو لم يحترق، رغم ذلك يبقى مجرد قش، يخشى خطر النار، لأن للنار خاصية الاحتراق…
2- بينما لو أحاط القش بمادة الاسبستوس، التى يقال عنها أنها تصمد أمام النار، فإن القش لا يرهب النار فيما بعد، إذ قد تحصن بإحاطته بمادة غير قابلة للاحتراق (فصل 7:44).
وهنا يرينا القديس أثناسيوس ما يلى :
– أن الإنسان بذاته هش، لا يستطيع الصمود أمام نار العدالة الإلهية، ونار الطبيعة الإلهية.
– أن الإنسان لو ترك وحده أمام النار الإلهية فسيحترق.
– لكنه لو تحصن بالله، وأحاط نفسه بالمسيح، يستطيع النجاة والصمود.
– “مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِى وَيَشْرَبْ دَمِى، يَثْبُتْ فِىَّ وَأَنَا فِيهِ” (يو 56:6).
– “لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ” (غل 27:3).
– “بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ” (رو 14:13).
– “أَمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنْفُسَكُمْ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ فِيكُمْ” (2كو 5:13).
– “لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِى قُلُوبِكُمْ” (أف 17:3).
– “أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَىْءٍ فِى الْمَسِيحِ الَّذِى يُقَوِّينِى” (فى 13:4).
– “أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِىَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِد” (يو 23:17).
– “أَنِّى أَنَا فِى أَبِى وَأَنْتُمْ فِىَّ وَأَنَا فِيكُمْ” (يو 20:14).
– “إِنْ أَحَبَّنِى أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِى، وَيُحِبُّهُ أَبِى وَإِلَيْهِ نَأْتِى وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً” (يو 23:14).
– “إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِى، وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِى” (رؤ 20: 3).
وهكذا صار التجسد طريقاً لخلاصنا :
1- من ظلمة الجهالة، حينما جاء المسيح معلماً لنا.
2- من موت الخطية، حينمـا فدانا الرب على خشبة الصليب.
3- من عزلة الإنسان، حينما اتحد بجسدنا، لنصير شركاء طبيعته الإلهية.
“أخذ الذى لنا، وأعطانا الذى له”.. هكذا قال القديس أثناسيوس، لا لنصير آلهة، بل نبقى بشراً يسكن فيهم الله، كما تسكن الشمس فى حجرة، أو الهواء فى صدر إنسان!!
مقال لنيافة الحبر الجليل الأنبا موسى أسقف الشباب
ومقرر لجنة الإيمان والتعليم بالمجمع المقدس