الشباب والتغيير – نيافة الأنبا موسى الأسقف العام

الرئيسية / الشباب والتغيير – نيافة الأنبا موسى الأسقف العام

الملاحظ الآن أن العالم إنتابته حمى التغيير، بمعنى أن هناك متغيرات سريعة متلاحقة، سواء بسبب الإنجازات العلمية المتسارعة، أو ثورة الإتصالات والمعلومات، أو سيل الإعلانات الإستهلاكية المطروحة على الشاشة الصغيرة، أو شبكات الإنترنت… تغيير فى كل شئ… فالأحداث تتسارع بحيث نسمع فى كل ساعة جديداً على خريطة العالم…والمنتجات والسلع ترى أمام المشاهدين… و الموضات” فى الملابس و تسريحة” الشعر أو حلاقته تماماً تجذب الشباب يميناً ويساراً… حتى أن البعض سماها “هستريا التغيير”… فلا إستقرار على حال، سواء فى مجال العلوم أو السياسة أو حتى على مستوى الأسرة والمجتمعات الصغيرة… كل يوم هناك جديد، والشباب يلهث ورائه!!

لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن فى خارج الإنسان، ولكنها تكمن فى داخله!! فالإنسان الراسخ الفكر والتوجيهات، الذى له فى حياته ثوابت ورؤى وفلسفة، لا يهتز أمام هذه المتغيرات، فيحلق شعره إذا حلقه أحد مشاهير الكرة، أو يطيل شعره إذا ما أطاله “بروك”!!

المشكلة إذن هى فى التمييز بين الثوابت والمتغيرات فى حياة الإنسان.

التغيير سمة المحدودات

وهذه بديهية فلسفيـة قديمـة:”ان التغيير والأزلية لا يتفقان”…فالتغير هو للمحدودات، أما غير المحدود فهو ثابت لا يتغير…

ومن التغيرات – كمجرد أمثلة – التاريخ، والإنسان، والعلم…

أ- فالتاريخ : حركة دائبة لا تهدأ.. ومع أن هناك مقولة شهيرة: “التاريخ يعيد نفسه” لكن هذا لا ينفى أن التاريخ حركة تغيير مستمر ربما بدأت متباطئة فى عصر الزراعة، فإستغرقت آلاف السنين، ثم تسارعت فى عصر الصناعة، الذى إستغرق مئات السنين، حتى دخلنا إلى عصر التكنولوجيا والفضاء والمعلومات والأقمار الصناعية والهندسة الوراثية، فصار التغيير لا يستغرق عشرات السنين، بل حتى من عام إلى آخر، ومن يوم إلى آخر، ومن لحظة إلى أخرى. إيقاع الزمن تصارع مع ثورة الإتصالات، فصرنا نعايش الأحداث حين وقوعها، وليس بعد وقوعها.

وهكذا إختلطت الثقافات والحضارات والشعوب، وتداخل البشر معاً من خلال التلاقى الإنسانى على مستوى الأسفار والرحالات والهجرة المؤقتة والهجرة الدائمة، كما تداخلوا من خلال ثورة الإتصال والمعلومات التى جعلت من العالم قرية صغيرة، أو ربما حجرة صغيرة، أو حتى ركناً صغيراً فى إحدى الغرف، فمن خلال جهاز كمبيوتر يدرك العالم كله بكل ما يحدث فيه من تغييرات إنسانية وفكرية وعلمية وسياسية وإقتصادية وإجتماعية، حتى صرنا فى الطريق إلى نشوء ما يسمى بالثقافة الكوكبية، Global Culture، فى عصر يمكن أن نسميه عصر العولمة (Globalisation).

التاريخ إذن متغير دائماً، سواء فى دورات، أو حركة ذات إتجاه واحد… المهم إنه غير ثابت. فماذا عن الإنسان؟.

ب- الإنسان : مع أن الله خلق الإنسان بطبيعة خاصة، من روح عاقلة خالدة ناطقة، هى قبس منه، ومن طين حسّى جسّدى… إلا أن الإنسان متغير أيضاً، بمعنى إنه دائم الحركة والتطور، سلباً أو إيجابياً، سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع… والتغيير فى الإنسان يحدث فى كل عناصره،
فالجسد يتغير من الحمل فالولادة فالطفولة والرجولة والكهولة والشيخوخة، والنفس تتغير بغرائزها وإنفعالاتها وعواطفها، والروح تتغير بتوجهتها نحو الشر أو الخير، نحو السماء أو الأرض، نحو الله أو العالم. كذلك يتغير العقل بقدر ما يفكر ويحلل ويستنتج ويدرس ويقارن وينمو ويحاور ويتفاعل… أما العلاقات فتتغير بالقطع بحسب ما يحيط بالإنسان من بيئة إجتماعية: من المنزل إلى الحضانة فالجامعة فالكنيسة فالمجتمع فالإنسانية على إتساعها… والعالم أيضاً يصيبه التغيير بإستمرار..

ج- العالم : فهناك فرق شاسع بين
عصر الدواب إلى عصر المركبات ثم السيارات ثم الطائرات ثم الأقمار والصواريخ.

وهناك فرق بين عالم القبيلة وعالم العولمة. وهناك تغيير مستمر فى إسلوب الحياة، والحضارات، والثقافات، وفى الحروب الصغيرة والكبيرة، وفى الإبداع الإنسانى فى الفن والأدب والعلم..

إذن فالتغيير سمة هذه المحدودات: التاريخ والإنسان والعالم… فهل من ثوابت؟!

الثابت الوحيد هو الله

لسبب بسيط للغاية ومنطقى وفلسفى، أنه أزلـــى أبــدى سرمدى، لا نهائـى،بلا حــدود. ومـع صعوبـة إستيعـاب العقـل المحـدود لله غيــر المحـدود، وهذا منطقـى جـداً، فيستحيل أن نعبئ البحر فى فنجان،! إلا أن  لا نهائية الله يمكن أن تستريح إليها عقولنا لأن الإنسان يعرف الله من خلال مزيج هام فى داخله بين الروح والعقل والضمير… فالروح هى العنصــرالأبـــدى فينــا هـو الذى يحلـق بنـا فيمــا وراء الطبيعة، والمادة، والكون، والموت، والخليقة المنظورة، فنحسّ فى أعماقنا بتلك البصمة الإلهية التى أودعها الله فى داخلنا، عندما خلقنا على صورته ومثاله: فى البر والقداسة والحكمة والخلود. لذلك يقول الرسول: الإنسان الروحى.

أى أن الإنسان إذا شبع بروح الله، وإستنار بنور الكلمة إستطاع أن يميز الأمور المتخالفة، ويحيا الرسوخ والإستقرار الداخلى، ولا يكون كاريشة فى مهب الريح.

والعقل.. كلما تأمل فى الكون المنظور، فما نراه من كون بديع التنسيق، شاسع الإتساع، منظم بدرجة مذهلة، متكامل مع بعضه البعض، يجعلنا نؤمن بالمهندس الأعظم الذى أبدع هذا الوجود. فإذا
ما حاول إتباع نظرية دارون أن يتشبثوا بنظرية النشوء والإرتقاء، وقفوا حيارى أمام سؤالين:

1- من هو الذى أنشأ الخلية الأولى؟

2- كيف نفسر المسافة الشاسعة بين أرقى أنواع القرود والإنسان، حيث فى الإنسان عقل وروح، فهو يتجاوز ذاته، ويسعى للخلود، ويؤمن بالكائن الأعظم، رب الحياة، ومقيمنا من الموت السائد علينا.

أمـــا الضميـر… ذلك الصوت الإلهى فـى الإنسـان، أو ما يسمــىبالشريعــة الأدبيـــة،(Natural Moral Law)، فهو دليل ثابت فى أعماق الإنسان، حيث يستمع الإنسان إلى صوته الداعى إلى الخير، مهما كان الإنسان شريراً، والموبخ على الخطأ مهما كان الإنسان غير متدين، والمادح لتصرفات إيجابية، مع راحة نفسية وسلام وصفاء، عطية الله للإنسان المؤمن…

الثابت الوحيد إذن هو الله، غير المحدود، واللانهائى. وإذا كانت الأرقام ليس لها نهاية فكم بالحرى خالق الأرقام؟!

من هنا ندرك ذلك التوتر الإنسانى، الذى يجعله دائم البحث عن الجديد والمتغير وغير الثابت، فهو لا يستريح عند حال، سواء فى عمله أو تفكيره أو دراسته أو حتى سكنه وملابسه، أو حتى مظهره الخارجى من طريقة حلاقة الشعر… إلخ.

هذا السعى الدائم نحو المتغيرات، هو نتيجة لعدم الشبع بالثابت الإلهى، الذى يجعله قادراً على الإفراز والتمييز، بالروح القدس الساكن فينا، فيمتحن كل شئ ويتمسك بالحسن، كما أن روح الله يشبع الإنسان باللانهاية، حينما يصير الرب يسوع كنزه الوحيد، غير المحدود، على الأرض وفى السماء فيعيش حياة “هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ” (لو 21:17)، ويختبر ما أختبره القديس أغسطينوس حين قال: “وقفت على قيمة العالم، يوم أحسست إننى لا أخاف شيئاً، ولا أشتهى شيئاً”، أو كما قال داود النبى
“مَنْ لِى فِى السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِى الأَرْضِ” (مز 73: 25).

أمران جوهريان إذن يميزان الإنسان الروحى عن إنسان هذا العالم: والتمييز النابع من إستنارة داخلية بروح الله، وبكلمات الكتاب المقدس، وبالقراءة الروحية، وبالإرشاد الأبوى… والشبع الروحى الذى يفيض فى القلب فرحاً وسروراً، من خلال حياة الصلاة، والتأمل فى كلماته المقدسة، والشبع بجسده ودمه الأقدسين، وبالحياة الكنسية بأصوامها وليتورجياتها وتسبحتها…

أى أن الإنسان إذا شبع بروح الله، وإستنار بنور الكلمة أستطاع أن يميز الأمور المتخالفة، ويحيا الرسوخ والإستقرار الداخلى، ولا يكون كاريشة فى مهب الريح.

إذن… فختام الأمر كله:

“اتَّــــقِ اللَّهَ وَاحْفـَظْ وَصَايَـاهُ لأَنَّ هَــذَا هُــوَالإِنْسَـانُ كُلُّـــهُ” (جا 13:12)… بمعنى أن الإنسان الروحى عنده كفاية ذاتية داخلية من الله الساكن فيه، تجعله راسخاً وثابتاً لا تهزه أفكار واقعة، أو تيارات متصاعدة، أو موضات وشهوات وأفلام وسلوكيات مستحدثة. ولكن هذا الرسوخ لا يعنى الجمود، فالشاب المؤمن يقبل أنواعاً هامة من التغيير مثل:

1- “تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ” (رو 2:12)… أى أن يقتنى فكراً مستنيراً وروحاً شبعانة ونفساً منضبطة وعلاقات ناجحة من خلال التوبة والأفكار الروحية.

2- “نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِى مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا…” (2كو 18:3).

أى أنه يجاهد روحياً فى طريق الكمال والقداسة.

3- “سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا” (فى 21:3)… وهو التغيير الأخير حينما نخلع هذا الجسد الترابى، لنلبس الجسد النورانى الممجد الذى لا يمرض ولا يشيخ ولا يموت، بل يملك مع الله إلى الأبد.

طوبى إذن…

لكل شاب عاش الثوابت ولم يغرق فى المتغيرات… ولكل شاب شبع بالرب، وإتجه نحو الملكوت، فعاش الكفاية، وهتف مع المرنم: “اَلرَّبُّ رَاعِىَّ فَلاَ يُعْوِزُنِى شَىْءٌ” (مز 1:23).

مشاركة المقال