الشباب… والحرية
يحب الشباب أن يعيش حراً… ويتضايق من كل أنواع القيود والسلطة… فى البيت والمدرسة والكنيسة والمجتمع
ولاشك أن الحرية شئ هام وبناء، بينما الكبت والقمع يدمران الإنسان.
إلا أن ذلك لا يمنع الحقيقة الراسخة، أن الحرية يمكن أن تكون هدامة، إذا كانت إنفلاتاً بلا التزامات وضوابط.
فما هو الخط الفاصل بين الحرية والإنفلات؟! فلندرس الأمر من البداية.
الله خلق الإنسان حراً:
وهذه حقيقة حتى إذا لم تعجب بعض الملحدين، الذين مع قبولهم حقيقة أن الله خلقهم، إلا أنهم يطلبون منه أن يبتعد عنهم. ففى القديم تحدث الكتاب المقدس عن أناس “يقولون لله ابعد عنا، وبمعرفة طرقك لا نسرّ” (أى 14:21). وفى العصر الحديث يقول أحد الوجوديين: “يا أبانا الذى فى السموات، إبق فيها”.
الله ليس هو “جوبتير” الذى رسمه الفيلسوف الوجودى “سارتر” فى روايته “الذباب”، فى صورة شخص يداه ملطختان بالدماء من كثرة ضحاياه… بل هو الرب يسوع، الذى يداه ملطختان بالدماء، من فرط محبته للبشر.
الله خلق الملائكة أولاً، ولما قضوا فترة اختبارهم، إذ رفض الشيطان أن يحيا لله، وأن يستمد نوره من نور القدير، بل تكبر طالباً أن يضع كرسيه فوق كرسى العلى، سقط الشيطان من رتبته. ولكن الله لم يبده، فقد كان فى استطاعته أن يفنيه كما أوجده قبلاً، لكن الله أبقى عليه، ليكون أمام خليقته القادمة (الإنسان)، فرصة اختيار وممارسة للحرية، فأمامه الله والشيطان، الخير والشر، الحياة والموت، شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشر… ولكنه سقط هو أيضاً بغواية العدو.
الحرية المطلقة وهم:
يتصور البعض أن الحرية يجب أن تكون مطلقة بلا حدود، ولا ضوابط… وهذا وهم كبير!! فليس فى الحياة حرية دون التزامات… فأنت حرّ أن تقود سيارة، ولكنك يجب أن تلتزم بقواعد المرور. وأنت حرّ أن تأكل ما تريد، ولكنك يجب أن تلتزم بكميات ونوعيات الطعام وإلا مرضت. لا توجد حرية مطلقة، فأنت فى كل تحركاتك ملتزم – على الأقل – بقوانين الدولة، والنظام العام، وتقاليد المجتمع… إلخ.
الحرية الحقيقية:
لهذا حدثنا رب المجد يسوع عما يسمى “الحرية الحقيقية” قائلاً: “إن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحراراً” (يو36:8)… و”تعرفون الحق، والحق يحرركم” (يو 32:8). وحذرنا الرسول بولس من اتخاذ الحرية فرصة للجسد، حينما قال: “لا تصيروا الحرية فرصة للجسد بل بالمحبة اخدموا بعضكم بعضاً” (غل 13:5). وخالف الوصية، وصار يحيا مشكلتين: حكم الموت وفساد الطبيعة… لكن الله، فى محبته للبشر، تجسد وفدى الإنسان… وبموته داس الموت… وبقوة لاهوته أعاد خلقة الإنسان مرة أخرى.
واستمر الإنسان حراً، حتى بعد الفداء، بل حتى بعد التجديد بالمعمودية، فالمعمودية التى فيها نولد ولادة ثانية، ونتجدد روحياً، لا تمنع حريتنا فى اختيار أى من الطريقين، طريق الخير أو طريق الشر، حينما نكبر، وتكون لنا إرادتنا الخاصة.
ويظل الإنسان هكذا متمتعاً بحريته… ولكن الحرية تصحبها المسئولية، فهو يتخذ قراره، ثم يتحمل تبعات هذا القرار، خيراً كان أم شراً.
الإنسان إذن خلقه الرب حراً، وسيظل حراً حتى النفس الأخير من حياته. أمامه الوصية، والنصيحة، والإرشاد الإلهى، وتبكيت الروح القدس، وعمل الضمير الداخلى، لكن… فى النهاية القرار قراره، والكلمة كلمته وهو مسئول عنها.
فما هى الحرية الحقيقية؟ إنها الحرية البناءة، التى تمنحنى:
? القدرة على الاختيار… ? مع تنفيذ الاختيارات البناءة…
فأنا أمام شاشة التلفزيون، أو ملفات الانترنت، أو وسط أصدقائى، أو اقرأ، أو أسمع، أو أشاهد… ولكن فى هذا كله أنا ملتزم بإختيار ما هو بناء، ثم بتنفيذ هذا الإختيار البناء. الحرية الحقيقية هى القدرة أن تقول: لا… للخطية، للسيجارة، للمخدر، للمسكر، للدنس، لكل انحراف… فهذه كلها أمور هدامة، لا تبنى الإنسان:
? من حيث روحه… إذ تصرفه عن الله…
? ومن حيث ذهنه… إذ يصير مشتتاً وغير منتج…
? ومن حيث نفسه… إذ تصير غرائزه وعواطفه متمردة وغير منضبطة…
? ومن حيث جسده… إذ تؤذيه الأمراض والهزال…
? ومن حيث علاقاته… إذ يمتنع عنه الكثيرون من الأصدقاء البنائين، وينحدر إلى أسفل مع أصدقاء السوء.
إن الحرية الحقيقية هى حرية الداخل، حرية الإرادة والقلب والفكر… حرية الروح الوديع الهادئ… حرية النفس السعيدة بالرب !!
ضوابط الحرية الحقيقية:
هناك ضوابط للحرية الحقيقة التى لنا فى المسيح يسوع، وهذه الضوابط هى:
1- الله وكتابه المقدس:
فهو النور الذى يهدينى إلى سبيل الحق والتوبة والقداسة… لهذا يقول القديس أنطونيوس: “ليكن لك شاهد من الكتب المقدسة على كل عمل تعمله “والشاب المسيحى يحيا دائماً تحت شعار: “سراج لرجلى كلامك ونور لسبيلى” (مز 105:119).
2- التعليم الكنسى:
الذى يفسر لى الكتاب المقدس، ووصاياه البناءة. فحين يطلب منى الكتاب أن أحيا طاهراً، تبدو هذه قيوداً، ولكنها فى الحقيقة ضوابط بناءة، فلاشك أن
الطهارة تبنى، والنجاسة تهدم. وهذا ما تشرحه لنا الكنيسة فى تعليمها اليومى.
3- أب الاعتراف:
فما لم أعرفه من وصايا الكتاب، أو تعاليم الكنيسة، وما قد أقابله من تساؤلات لا أستطيع معها أن أميز بين الشر والخير، الخطأ والصواب، أو حتى بين الشر وشبه الشر… يكون أب الاعتراف – بالروح القدس العامل فى السرّ المقدس – خير سند لى، يعطينى من لدن الرب حلاً عن خطاياى، وحلاً لمشاكلى، وارشاداً فى كل موقف.
4- الضمير الإنسانى:
الذى هو صوت الله فى داخلى، وقد جاء فى هذا الترتيب لأن الإنسان أحياناً إما لا يسمع بوضوح صوت ضميره، أو أنه يسمح بضمير واسع يبتلع الخطأ، أو ضمير ضيق يتعب النفس… وفى هذا كله يكون لأب الاعتراف دوره الهام فى شرح الأمور وتوضيحها.
5- قوانين الدولة:
فالإنسان المسيحى خاضع لقوانين الدولة، حسب وصية الكتاب المقدس:
“ذكرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين ويطيعوا ويكونوا مستعدين لكل عمل صالح” (تى 1:3).
لهذا… فما أحلى الحرية، بشرط أن تكون حقيقية، وملتزمة، وبناءة!
نيافة الأنبا موسى