توصف الكنيسة بأنها واحدة (من جهة العدد) ووحيدة (من جهة النوع)…
فليس فى السماء ولا على الأرض كيان آخر يشبه الكنيسة!! إنها تجمع فى نفسها بين :
أولاً: الإلهى… والإنسانى
وهذا حق!! لأن الكنيسة هى جسد المسيح، حيث يكون الرب يسوع – بلا نهائيته ولا محدوديته – رأساً لهذا الجسد، بينما يكون الشر – المنتقلون إلى السماء أو الموجودين على الأرض المؤمنين باسمه – أعضاء لهذا الجسد!
وهذا الوضع الفريد، الذى يجمع الإلهى بالإنسانى، هو إحدى ثمرات التجسد الإلهى.. فحينما تجسد رب المجد، أقنوم الكلمة، اللوغوس، الحكمة الإلهية غير المحدود، آخذاً جسداً إنسانياً مشابهاً لنا فى كل شئ، ما خلا الخطية وحدها، إنما قصد إلى أهداف ثلاثة، وليس إلى هدف واحد فقط، وهذه الأهداف هى:
1- التعليم : كمعلم عليم – كما قال القديس أثناسيوس – نزل إلى مستوانا البشرى، وإلى واقعنا الأرضى، وإلى طبيعتنا الحسية، لكى يعلمنا ويرشدنا، ويشرح لنا شيئاً عن لاهوته، والثالوث القدوس، والصفات التى للخالق من حب وعدل وقداسة وكمال، والمشاعر والمقاصد الإلهية من جهة البشر، وخطة تخليص الإنسان من عبودية إبليس، وفساد الطبيعة، وحكم الموت، ليدخل إلى دائرة الخلاص من الخطية، والمصالحة مع الله، والسعادة الأبدية.
إن الرب يسوع قد جاء نوراً للعالم، ومن خلال كلمات الإنجيل أنار لنا طريق الحياة والخلود.
2- الفداء : فالرب يسوع بما يحمله من مواصفات خاصة يستحيل أن تتكرر فى كائن آخر فى السماء أو على الأرض قصد أن يفدينا من موت الخطية، إذ أخذ على عاتقه حكم الموت، الذى كان مسلطاً علينا، ومات بدلاً منا، وإذ لم يكن ممكناً أن يمسكه الموت – لقداسته المطلقة، ولاهوته غير المحدود قام من أجلنا، وأقامنا معه.
لقد كان الرب يسوع الفادى المثالى المطلوب، حيث إستطاع بلاهوته أن يكون: غير المحدود، وبلا خطية، والخالق القادر على تجديد الإنسان وإعادة خلقه، وبناسوته: أن يكون إنساناً يمكن أن يموت نيابة عنا!! “وهكذا أرتفع على الصليب، ليحمل عقاب خطايانا!!” ثم قام من الأموات، ليدخل بنا إلى خلود الأبدية!!
3- الإتحاد : فالرب يسوع لم يقصد بالتجسد أن يعلمنا فقط، أو أن يفدينا فقط، ولكنه قصد ان يتحد بنا، أو كما قال العظيم أثناسيوس “أخذ الذى لنا، وأعطانا الذى له”، أى أنه أخذ جسم بشريتنا، ليعطينا شركة طبيعته الإلهية، لا معناها أن نصير آلهة، بل معناها أن نصير أبناء الله، تسرى فينا حياته الإلهية، ونعمته الربانية، ودم إبنه الوحيد!! وهنا نتذكر مثل “القشة والاسبستوس” للقديس أثناسيوس، وكيف استطاعت “القشة” (الإنسان الخاطئ الضعيف) أن تفلت من النار (العدالة الإلهية)، حينما كان الاسبستوس (مادة غير قابلة للإشتعال)، تغلفها تماماً!!
– “كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ” (غل 27:3).
– “لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِىَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا” (يو 21:17).
– “وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِى أَعْطَيْتَنِى لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ”
(يو 22:17).
– “أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِىَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِى وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِى” (يو 23:17).
هذا هو مجد المسيحية!!
ليس أننا سوف نصير أتباعاً للمسيح فقط!!
بل لأن المسيح سيسكن فينا!!
– “الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ” (كو 27:1).
– “أَمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنْفُسَكُمْ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ فِيكُمْ إِنْ لَمْ تَكُونُوا مَرْفُوضِينَ” (2كو 5:13).
– “لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِى قُلُوبِكُمْ” (أف 17:3).
– “إِنْ أَحَبَّنِى أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِى، وَيُحِبُّهُ أَبِى وَإِلَيْهِ نَأْتِى وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً” (يو 23:14).
– “فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّى أَنَا فِى أَبِى وَأَنْتُمْ فِىَّ وَأَنَا فِيكُمْ” (يو 20:14).
– “أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ” (1كو 16:3).
إن مجد المسيحية يكمن فى سكنى المسيح فينا، وسكنى المسيح فينا، وسكنى روحه القدوس داخلنا، ودخول الآب السماوى إلى أعماقنا، إنها شركة الثالوث القدوس مع البشر… يا للمجد!!
قديماً كان الرب يحلّ على الجبل أو فى الخيمة.. كدخان.. كعمود نار.. كعمود سحاب.
ولكننا الآن نرى الرب يسكن فينا… ياللمجد!! وهنا الفرق الشاسع بين الخيمة، والهيكل، والكنيسة…
فالخيمة كان يحل فيها الرب بصورة حسية مؤقتة ليعطى بعض التعليمات لموسى النبى.
والهيكل كان يحل مجد الرب فيه بصورة حسية مؤقتة، كما ظهر لأشعياء فى رؤيا مهيبة.
والجبل كله كان يدخن… ولكن أحداً لم يجسر أن يلمس الجبل…
أم الآن…
ففى كنيسة المسيح.. نحن نلمس الرب.. ونأكل جسده ودمه الأقدسين.. ونتحد به أبدياً.
– “فَمَنْ يَأْكُلْنِى فَهُوَ يَحْيَا بِى” (يو 57:6).
– “َأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِى” (رؤ 20:3).
ثانياً: الزمن… والأبدية
الزمن محدود… والأبدية لا نهائية… والكنيسة تجمعهما معاً!!
بل أتجاسر فأقول إن الكنيسة أخذت من خلود عريسها خلوداً لها، ومن أزلية قصده أزلية لها!!
– ففى الأزل كان قصد الله أن يخلق البشر.
– وفى الزمن تمت مقاصده بالتجسد والفداء.
– وفى الأبدية يدخل البشر بأجساد نورانية إلى السماء…
إذن…
فقد دخل الإنسان المحدود، صاحب الجسد المحدود، والعمر الزمنى المحدود، دخل إلى اللامحدود واللانهائى… دخل إلى أزلية القصد، وأبدية المصير!!
فى الأزل…
قصد الله أن يخلق الإنسان… من فرط أبوته وحبه… ليتمتع بحنانه وعطاياه!!
وقصد أن يخلقه حراً فسمح بسقوط الشيطان… وباستمرار الشيطان… بعداء الشيطان للجنس البشرى… وذلك ليمارس الإنسان حريته الكاملة!!
وسقط الإنسان فى الزمن…
فى تاريخ معين…
ولكن هذا الزمن كله… كان داخلاً ضمن خطة الله الأزلية الخالدة… فالله لا يتغير،
ولا يفاجأ، ولا يتحير، إذ أنه يعرف كل شئ مسبقاً، وكل الكائنات والأحداث والأشياء، تدخل ضمن قصده الإلهى، وخطته المحكمة!!
وفى ملء الزمان… تجسد الرب من إمرأة، مولوداً تحت الناموس لننال التبنى… وبالتبنى نلنا روح الله… وبالروح صرنا نهتف: يا أبانا الآب… وإذ صرنا أولاداً أصبحنا ورثة… ورثة الله بالمسيح!! والميراث الإلهى ميراث أبدى…
+ “لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيّاً. وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِى تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِى لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِى تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِى لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ” (2كو 18،17:4).
+ “لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِىُّ، فَلَنَا فِى السَّمَاوَاتِ
بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِىٌّ” (2كو 1:5).
+ “فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ” (2كو 8:5).
+ “نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِى السُّحُبِ (مع الراقدين القائمين من بين الأموات)، لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِى الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ” (1تس 17:4).
+ “مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِى فِى عَرْشِى، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِى فِى عَرْشِهِ” (رؤ 21:3).
أين الزمن هنا ؟!
لقــــد دخـل إلـى الأبديـــة، وأستقـــر فى الخلود!!
فالكنيسة – بالحق – تجمع بين الزمن والأبدية… وتدخل بالزمن إلى الخلود!!
ثالثاً: المادة… والروح
فالمسيح رب المجد، بتجسده، جمع ووحّد بين اللاهوت (الروح) والناسوت (المادة).. وهكذا أتحد الناسوت باللاهوت مرة واحدة وإلى الأبد…
والكنيسة تستخدم المادة فى الأسرار المقدسة، التى فيها يحلّ الروح القدس، ويطهرها ويقدسها، سواء كانت مياه المعمودية، أو زيت الميرون، أو الخبز والخمر، أو زيت مسحة المرضى، أو الإنسان فى التوبة والزيجة والكهنوت…
“لأَنَّ كُلَّ خَلِيقَةِ اللهِ جَيِّدَةٌ، وَلاَ يُرْفَضُ شَىْءٌ إِذَا أُخِذَ مَعَ الشُّكْرِ، لأَنَّهُ يُقَدَّسُ بِكَلِمَةِ اللهِ وَالصَّلاَةِ” (1تى4:4-5)… وكان الحديث فى هذا الإصحاح عن أمرين: الزواج والأطعمة.
من هنا لا نحرم المادة أياً كانت، بل نحرم استخدامها الهدام، فالخمر كمادة يمكن أن تستخدم طبياً، أو فى سر التناول، ولكنها لا يصح أن تستخدم للمتعة أو تغيب العقل… تماماً كالمخدرات التى يستحيل بدونها استمرار الجراحة والكثير من أمور الطب، ولكن استخدامها المنحرف والمدمر، مكروه أمام الله!!
والمسيحية لا ترى فى الجسم الإنسانى إلا وزنة مقدسة، يجب الحفاظ عليها، وتقديسهـا،وتقديمهـــا لله، سواء فى الخدمـة أو فـى الـزواج المقــدس الـذى يساعــد علــى الحب، والتعاون، والخلاص، واستمرار النوع الإنسانى، وخلق المزيد من القديسين. لذلك يقول الرسول :
+ “لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ” (أف 29:5).
+ “وَلَكِنَّ الْجَسَدَ لَيْسَ لِلزِّنَا بَلْ لِلرَّبِّ وَالرَّبُّ لِلْجَسَدِ” (1كو 13:6).
+ “الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ” (غل 24:5).
+ “بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِى وَأَسْتَعْبِدُهُ حَتَّى بَعْدَ
مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِى مَرْفُوضاً” (1كو 27:9).
وواضح من هذه الآيات أننا نهتم بالجسد وصحته، ونجاهد ضد تيار الإثم العامل فى الجسم ومن خلاله…
لذلك فالإنسان المسيحى يجاهد فى حياته الأرضية والمعيشية والمادية، مقدساً جسده وكل ماله وممتلكاته للرب، وحتى إذا كان غنياً أو صار غنياً، فهو لا يحب المال أو يتكل عليه، حتى لا “َطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيـرَةٍ” (1تى 10:6)، ويكون كمـن “فَهَـذَا أَيْضـاً إِثْـمٌ يُعْـرَضُ لِلْقُضَاةِ لأَنِّـى أَكُـونُ قَدْ جَحَـدْتُ اللهَ مِـنْ
فَـوْقُ” (أى 28:31)…
ولكنه يستثمر المال فى “أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ” (1تى 18:6) ليكون مع غيره من الأغنياء “مُدَّخِرِينَ لأَنْفُسِهِمْ أَسَاساً حَسَناً لِلْمُسْتَقْبَِلِ، لِكَىْ يُمْسِكُوا بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ” (1تى 19:6) لأنهم كانوا “أَسْخِيَاءَ فِى الْعَطَاءِ كُرَمَاءَ فِى التَّوْزِيعِ” (1تى 18:6).
إن المادة والروح يلتقيان فى الكنيسة فى اتحاد وانسجام، فالرب الذى قدَّس الروح سيقدس الجسد أيضاً، ليحيا الإنسان ككل داخل الملكوت إلى الأبد.