تأملات في ليلة أبو غلامسيس

الرئيسية / تأملات في ليلة أبو غلامسيس

تأملات في ليلة أبو غلامسيس

بينما كنت أطوف أرجاء البيعة وسط خورس الأباء الرهبان بالدير نردد معاً لحن (مارين أؤونه) فى بداية طقس ليلة سبت النور … جال فى ذهنى هذا الخاطر : ماذا نحن فاعلون ؟ هل نحن نقيم جنازاً ليسوع المصلوب حيث أننا نردد نفس الألحان التى تقال فى تجنيز الأباء؟ ، أم أننا نقيم له طقس رهبنه؟ “حيث يختلط اللحن الحزاينى مع بهجة الحدث واللحن الفرايحى”!! أم أننا نتوقع مجيئه الثانى بمشاعر يختلط فيها الخوف مع الحب والفرح مع الرهبنة ؟ حيث نقرا سفر الرؤيا ونتخلله بمردات مبهجة ومنبهة !!!

إنها بالحقيقة سهرة روحية مبدعة جديرة بأن نتأمل ماذا تقصد الكنيسة فيها .

العروس تسهر إلى جوار العريس المسجى :

لقد مات الابن غير المائت … الحى إلى لا يموت الآن مدفون … لم تكن المعجزة أن الرب يسوع قد قام ولكن المعجزة أنه مات .. كيف يموت من هو مانح الحياة .. كيف ينطفئ مصباح الحياة ..؟ لقد قام “نافضاً أوجاع الموت أو لم يكن ممكناً أن يمسك منه” (أع 24:2) .

أن حدث الموت بالنسبة للمسيح لم يكن متوقعاً من الرسل ولا من كل الكنيسة الأولى إذا كانوا واختلطت المشاعر .. وكادوا يقعون فى اليأس حتى أنهم لم يقبلوا خبر القيامة بسهولة فالنساء المريمات “خرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهم كن خائفات” (مر8:16) أما الرسل فـ”لم يصدقوا” (مر11:16،13) “فتراءى كلامهن لهم كالهذيان” (لو11:24) وأما يسوع “أخيراً ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد مات” (مر14:16) .

أننا الآن نشعر بأحاسيس هؤلاء القوم المضروبين بموت أبيهم وسيدهم ومعلمهم ومحط آمالهم … لقد صعقوا بموته … فسهروا معاً فى العليقة بمشاعر مختلطة ولعل الكنيسة عندما تسهر طوال الليل إنما تعيد للقلوب والأذهان نفس المشاعر التى كانوا يجوزونها بسهرهم إلى جوار الحبيب يبكون لآلامه وموته بينما نفرح معاً من أجل خلاص العالم “أما العالم فيفرح بقبوله الخلاص ، وأما أحشائى فتلتهب عندما أنظر إلى صلبوتك الذى أنت صابر عليه من اجل الكل يا ابنى وإلهى” الأجبية عن لسان العذراء .

حسب ترتيب الطقس الأصلى : لا يبرح المؤمنون الكنيسة بعد انتهاء صلوات يوم الجمعة الكبيرة بل يبدأون المزامير واحداً فواحد حتى يصلوا إلى المزمور 151 فيرتلونه باللحن الخاص به “أنا الصغير” وتستمر الصلوات والتسابيح حتى انتهاء قداس فجر الأحد” فالكنيسة لا تبرح مكانها منذ ثلب المسيح وحتى قيامته .. معلنة مشاركتها الدافئة لعريسها المذبوح عنها .. تشاركه بأن تصلب إلى جواره وتسهر معه تسبحة وتشكره وتنتظر قيامته المجيدة المقدسة وهى تعلم أنه حى لا يموت لذلك نرتل أبصالية خاصية مردها “قدوس الحى الذى لا يموت أرحمنا”.

2- حياة تبزغ من قبر :

السلام للقبر المقدس موضع الموت الذى صار ينبوعاً للحياة .

السلام للموضع الذى تخرج منه نتانة الموت ففاحت منه رائحة الحياة .

السلام لقبر الفنى الذى أغنى كل العالم من ضياء نور الحياة .

ما هذا ؟ إنها الليلة التى تعلن عن الله إله المستحيلات والمعجزات أنه بالموت داس الموت لذلك تجمع الكنيسة من كل الأسفار المقدسة قصص الأعاجيب وتقدمها فى صورة تسابيح فهوذا داود الصغير يصير الملك “أخوتى حسان وكبار والرب لم يسر بهم” (مز151) ، وبنو إسرائيل يعبرون البحر ويغرق فرعون القاسى (الهوس الأول) ، ويسبحه موسى النبى “انظروا انظروا إنى أنا هو وليس إله غيرى أنا أميت وأحى واضرب واشفى” (تث ) .

وها هى حنة أم صموئيل العاقر التى أنجبت كمثل القبر الذى صار ينبوعاً للحياة ويونان النبى الذى صار فى حكم ميت وقد خرج من قبر الموت بعد ثلاثة أيام ، ولم تنس الكنيسة أن تورد ذكر حزقيا الملك الذى أضاف الله إلى عمره 1 سنة بعد أن كان قد انتهى عمره ، ومنسى الملك الذى ضل وصار كميت ثم تاب وعاد وصار جديداً كالقائم من الأموات ، دانيال النبى الذى ألقى فى جب الأسود ولك يكن أحد يتوقع أن يعود حيا ثانية ولكنه عاد ..

والفتية القديسون الذين القوا فى أتون النار وجاء الرابع (ابن الله) ليحررهم من النار ويمشون معه كما فى فردوس .. “أليس هذا إشارة إلى نزول المسيح إلى الجحيم ليصعد الأرواح البارة إلى الفردوس ليتنعموا معه هناك” .

والعذراء مريم النموذج الرائع للأعجوبة الفريدة فكيف تلد البتول وكيف تحبل عذراء “القدير صنع بى عظائم” ، وزكريا الكاهن الذى انجب بعد شيخوخة وعقم ، وسمعان الشيخ الذى عاش بعد سنه المفترض ليرى خلاص الله وأخيراً سوسنة العفيفة التى حكم عليها بالموت ظلماً ثم قامت بحكمة دانيال … فكل التسابيح التى انتخبتها الكنيسة فى هذه الليلة المبهجة تحمل فكرة كيف يتدخل الله بطريقة معجزية ليخرج من الجافة حلاوة ومن الأكل أكلاً ، كيف يتدخل الله ليقلب الموازين ويعيدها إلى وضعها الصحيح … كيف يتدخل الله بطريقة لا نتوقعها ليحل مشاكلنا ويحل فى حياتنا .

3- أنا أتى سريعاً آمين تعال أيها الرب يسوع :

عند موت المسيح نزل إلى الجحيم و (سبى سبياً) (تس8:4) وجذب إليه كل الأبرار الذين ماتوا على رجاء صليب المسيح يخلصهم من الهاوية التى نزلوا إليها لذلك تعتبر يوم الصليب الجمعة) كأنه أنموذجاً ليوم القيامة (الأخير) حيث يفرز المسيح الأبرار من بين الأشرار ويكافئ أحباءه بالأبدية السعيدة … ولعل هذا هو السر فى أن الكنيسة ترتل لحن (بيك أثرونوس – عرشك يا الله إلى دهر الدهور) الذى يتكلم عن عرش الحكم الأخير … ترتله الكنيسة مرة يوم ثلاثاء البصخة عندما يقص المسيح ترتيب أحداث الدينونة فى إنجيل الحادية عشر، وترتله مرة أخرى يوم الجمعة الكبيرة فى الثانية عشر عندما ينزل المسيح إلى الجحيم ليمارس دينونة مبدأية يختار فيها الأبرار ليكونوا معه كل حين ويترك الأشرار مع الشيطان فى الجحيم ولعل هذه الدينونة الصغيرة قد رفعت ذهن الكنيسة إلى يوم الأبدية السعيدة فالتهب قلبها بالحب والشوق وبدأت تطلب هذا المجئ الثانى وتذكره وتشتاق إليه … لذلك نقرأ سفر الرؤيا بهدوء وتركيز قلب ويتخلله الألحان الشجية التى تسحب النفس سحباً إلى الأبدية فالهيكل مفتوح والمناير موقدة والصلبان والمجامر وملابس الكهنوت مع القراءة … كلها موجهة إلى إشعال الفرحة فى القلب والشوق فى النفس للقاء العريس الحى إلى أبد الآبدين .

أننا فى سفر الرؤيا نؤى المسيح فى مجد ألوهيته وأزليته وفى بهاء حكمه ونصرته ونرى أيضاً الأمجاد المعدة للمنتصرين ونرى السماء بكل سكانها تشترك معهم فى التسبيح والفرح والنصرة … ويتحرك قلبنا بالشهوة المقدسة أن نغلب لكيما ننال المواعيد الإلهية .

1- “من يغلب فسأعطيه ان يأكل من شجرة الحياة التى فى وسط فردوس الله” (رؤ7:2) .

2- “من يغلب فلا يؤذيه الموت الثانى” (رؤ11:2) .

3- “من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المخفى وأعطيه حصاه بيضاء وعلى حصاة اسم مكتوب لا يعرفه أحد غير الذي يأخذ” (رؤ17:2) .

4- “من يغلب ويحفظ أعمالى إلى النهاية فسأعطيه سلطان على الأمم … وأعطيه كوكب الصبح” (رؤ26:2،28) .

5- “من يغلب فذلك سيلبس ثياباً بيضاء ولن أمحو أسمه من سفر الحياة وسأعترف باسمه أمام أبى وأمام ملائكته” (رؤ5:3) .

6- “من يغلب فسأجعله عموداً فى هيكل إلهى ولا يعود يخرج إلى خارج وأكتب عليه أسم إلهى وأسم مدينة إلهى أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند إلهى واسمى الجديد” (رؤ12:3) .

7- “من يغلب فسأعطيه أن يجلس معى فى عرشى كما غلبت أنا أيضاً وجلست مع أبى فى عرشه”(رؤ21:3) .

الأنبا رافائيل

مشاركة المقال