
أنبا موسى
فى رحاب خدمة الرسل
بعض مؤشرات التقييم :
هذه بعض مؤشرات نستخدمها فى تقييم خدمتنا، نعرض لها، فى محاولة متواضعة، وباختصار :
1- المؤشر الجغرافى : أى الوصول إلى كل مكان على خريطة الخدمة، المدن والقرى والنجوع والعزب … وبخاصة الأماكن التى ليس فيها سوى أعداد قليلة من الشعب .. حيث تصعب خدمتهم، وأحياناً تضمحل، فيكونون فى خطر الضياع والذوبان الكامل. وهذا المؤشر يستدعى وجود خرائط جغرافية دقيقة، وبخاصة أن الخرائط يتم تجديدها، ولكن الامتدادات العمرانية تتحرك باستمرار، ولا يمكن الإحساس بوجودها إلا من خلال الزيارة على الطبيعة.
2- المؤشر المنزلى :
فما أسهل أن تمتلئ الكنائس فى القداسات والاجتماعات، ولكن الدراسة الدقيقة تؤكد أن هذه نسبة قليلة وثابتة من أبناء الكنيسة، لا يمكن الاكتفاء بها، والوصول إلى خداع النفس من خلالها أن الخدمة على ما يرام. إن أى خدمة لا تعتمد على الدورية المنظمة، هى خدمة ناقصة، فعدد الذين لا يأتون إلى الكنيسة أكبر بكثير ممن يأتون بانتظام، أو حتى بنصف انتظام. لذلك لابد من المرور على البيوت من خلال دورات افتقادية منتظمة: فى أول العام الدراسى، وإجازة نصف السنة، وبدء الإجازة الصيفية.. على أن يقوم بهذه الخدمة المنزلية الآباء الكهنة يعاونهم فريق منظم ومدرب من الخدام والخادمات.. يزورون المنازل، ويفتقدون الكبار والشباب والأطفال.. كل فى منطقة صغيرة.. ويتقابلون أسبوعياً مع الآباء الكهنة، ليقدموا تقريراً عما قابلوه فى الافتقاد، وعن احتياجات أسر بعينها.
كذلك يجب أن لا يزور جميع الكهنة بعض الناس، بل أن يقسم الآباء الكهنة المنطقة جغرافياً، ليزور كل أب كاهن منطقة محددة، وبعد أن يقوم بواجبه نحوها، يزور فى مناطق أخرى.
إن زيارة المنزل لها أقوى الآثار فى حياة الأسرة، وبدونها يضيع الكثيرون، كباراً أو صغاراً.
3- المؤشر الأسرى :
هل من رعاية للأسرة؟ هل من لقاءات للمخطوبين والمتزوجين حديثاً؟ وهل من زيارة دورية للأسر حديثة التكوين لتلتزم بالصلاة العائلية فى البيت كل يوم، ثم بالتناول المشترك بالكنيسة؟ ثم بالاشتراك فى الخدمة الكنسية؟ هل من اجتماع خاص بكل كنيسة، يسمى “اجتماع الأسرة”، يسعى نحو التربية الزوجية والأسرية السليمة؟
إن الأسرة هى الخلية الأولى فى الكنيسة والمجتمع، وهى الراعية الأولى للأطفال والفتيان والشباب، وبدون الأسرة يصعب على الكنيسة أن تقوم بدورها الرعوى والتعليمى.
هل من مسابقات على مستوى الأسرة، تجيب عنها الأسرة كلها، إذ تجتمع معاً للإجابة عن الأسئلة؟ وهل من نبذات توزع على البيوت فى الافتقاد، تهدف إلى بناء بيت مسيحى مقدس؟
4- المؤشر الفردى :
إن شعار الكتاب المقدس هو: “لكثرة القوة، وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد” (إش 26:40)، والرب يسوع فى صلاته الشفاعية ناجى الآب قائلاً: “الذين أعطيتنى لم يهلك منهم أحد، إلا ابن الهلاك” (يو 12:17). فهل هذا هو شعارنا نحن أيضاً: الاهتمام بالنفس الواحدة، كما علمنا قداسة البابا شنوده الثالث. أليست النفس الواحدة هى خلية الأسرة، والأسرة هى خلية الكنيسة؟ أليست النفس الواحدة غالية فى عينى الرب؟ أليست بها طاقات ووزنات ومواهب يمكن أن تخدم الكنيسة والمجتمع؟ وأليست النفس الواحدة عضو فى جسد المسيح، الكنيسة، وكل عضو له وظيفة وعمل، لبنيان الجسد كله.
إن الاهتمام بكل إنسان وصية من معلمنا بولس الرسول الذى قال: “منذرين كل إنسان، ومعلمين كل إنسان، بكل حكمة، لكى نحضر كل إنسان، كاملاً فى المسيح” (كو 28:1).
5- المؤشر الرعوى :
هل تقوم الكنيسة: الأكليروس والخدام والخادمات، بكل ما عليها وما يمكنها من رعاية لكل إنسان؟ سؤال صعب، ولكنه هام. فالرسول يعقوب ينبهنا لهذه المسئولية قائلاً: “إن كان أخ أو أخت عريانين، ومعتازين للقوت اليومى، فقال لهما أحدكم: أمضيا بسلام، استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد، فما المنفعة؟” (يع 16:2). إن الخدمة الأمينة يجب أن تهتم بظروف كل إنسان: الروحية والمادية والصحية والتعليمية والاجتماعية.. ومع أن هذا الهدف كبير، ومسئولياته متشعبة، لكنه ممكن حينما نفهم أن الكنيسة لا تعنى فقط، بل ومعهم طاقات خادمة كثيرة، فى طاقة المجالات التى ذكرناها وغيرها: الروحية والمادية والصحية والتعليمية والاجتماعية.. لتقديم الخدمة إلى كل محتاج.. وبهذا تكون الرعاية.
والرعاية مهمتها الأولى هى إشباع الاحتياجات، ولكن مهمتها الأخطر هى الوقاية من الانحرافات والضياع، والاكتشاف المبكر للسلبيات: سواء الانحراف الأخلاقى أو الدينى أو أصدقاء السوء… وتقديم الحلول البديلة.
6- المؤشر الروحى :
إن الهدف الروحى من خدمتنا يكمن فى ثلاثة أمور:
– البعيد عن الكنيسة… يقترب منها.
– والقريب منها… يثبت فيها. – والثابت فيها… يخدم أخوته.
من هنا يكون الهدف الروحى ثلاثى المراحل: التوبة – النمو – الخدمة… وهى مراحل مترابطة، يستحيل الاكتفاء بواحدة دون الأخرى فالكنيسة تدعوا الخاطئين إلى توبة صادقة، واعتراف أمين… ثم تتعهدهم بالإشباع المستمر لينمو فى حياتهم المسيحية… وأخيراً تختار منهم من يخدم فى القطاعات المختلفة، وما أكثرها: الكلمة، احتياجات القديسين، الإدارة، الماليات، الفئات الخاصة… كالمعاقين جسدياً أو ذهنياً… المكفوفين والمسنين، والأيتام… وخدمات أخرى: هندسية وفنية وأدبية ومكتبية… الخ.
إن الكنيسة الحية هى مجال مملوء بالحيوية، يستوعب كل أعضاء الكنيسة فى مجالات لا حصر لها…
7- المؤشر الإيمانى :
ونقصد به ثبات أبناء وبنات الكنيسة فى الإيمان المسيحى والعضوية الكنسية… ومدى انتشار ظاهرة الارتداد، والجهود المبذولة للحد منها أو – بالحرى – للانتهاء منها بنعمة الله.
إن الاغراءات الجسدية والمادية لا تنال من أبناء المسيح الثابتين فيه، والشباعى بنعمته.. “فالنفس الشبعانة تدوس العسل” (أم 7:27). لذا لابد من مجهود متشعب المجالات :
توصيل الرعاية الكنسية لكل بيت، ولكل نفس…
دمج أبناء الكنيسة فيها بعمق…
التأصيل الإيمانى والعقيدى بالنعمة والمعرفة…
المحافظة على المخدومين من الرياح المضادة والتيارات السلبية، بالتوعية والرعاية الفردية والأسرية والعامة.
الاكتشاف المبكر للحالات، وسرعة محاصرتها بالحب والاهتمام والتنبيه.
ترك الباب مفتوحاً لكل من ابتعد، لكى يجد طريق العودة ممهداً لرجوعه…
الصلاة المستمرة والحارة، حتى لا يفقد أحد.
8- المؤشر العمرى :
هل نحن نخدم كل الأعمار؟ ولنبدأ بالحضانة التى لم نكن نلتفت إلى أهميتها، فإذا بها أهم مرحلة، حيث فيها تتكون ثقة الطفل بنفسه وبغيره، من خلال الحنان الممنوح له… كما يجتاز مرحلة الاستقلال إذ يترك حضن الأم الدافئ، ليصارع الحياة العامة. إنها الفترة التى فيها يتعرف الطفل على المسيح والعذراء والقديسين والكنيسة والتناول والكاهن… بصمات لا تمحى.
فماذا نقول عن مرحلة الطفولة، وفيها الإنجاز الذى يفرح به الطفل فى المجال الدراسى، والكنسى؟ ثم مرحلة الفتوة فى سن الإعدادى، سن الإيمان والبطولات والمحفوظات والصداقات… ثم سن الثانوى حيث يبدأ تكوين الذات والميل الجنسى؟ ثم الجامعة حيث قد يدخل فى ارتباطات عاطفية سليمة أو صداقات سقيمة مدمرة؟ ثم الرجولة حيث الخصوبة والعطاء والخدمة والتكريس؟ ثم الكهولة حيث الخبرة التى يمكن أن تعطى للأجيال؟
نحتاج إلى برامج لخدمة كل هذه الأعمار، فى عصر تعقدت فيه الحياة والعلاقات وتداخلت الثقافات وسيطر الإعلام وشبكة الإنترنت على أذهان الأجيال الصاعدة؟
9- المؤشر الكنسى : ما مدى ارتباط الأجيال بالكنيسة من حيث:
الإيمان والتمسك بعقائدها.
والشبع اليومى بطقوسها.
والانتماء إلى تاريخها وقديسيها وآبائها.
والارتباط بإرشاد أب اعتراف روحى.
والإسهام فى خدمتها كعضو حىّ فى الجسد.
إن الجسد الحى مكون من أعضاء حية فعالة لها وظائفها، أما الجزء الذى بلا وظيفة فهو مجرد زائدة بلا عمل، يمكن استئصالها دون إيذاء للجسد. لذلك فدأب الكنيسة اليومى، هو فى دمج أبنائها بها كل يوم من خلال: القداسات، والاجتماعات العامة، والنهضات، واجتماعات الفئات، والأنشطة الروحية، والمناسبات الكنسية، وأعياد القديسين، والخدمة فى كل المجالات.
10- المؤشر الفئوى :
من الأمور المؤرقة أننا نخدم الشباب المتعلم وننسى الشباب الريفى والعامل والحرفى… هذا مجرد مثال عن ضرورة الاهتمام بفئات الشعب المختلفة.
إن الحياة المعاصرة، بتعقيداتها وتشعباتها، جعلت خدمة كل فئة بذاتها أمراً هاماً، فما يناسب
فئة لا يناسب أخرى، واحتياجات الطبيب غير المحامى، غير المعلم.. الأمر الذى يحتاج إلى لمسات وبرامج خاصة لكل فئات الشعب.. ربما فى اجتماعات أسبوعية أو شهرية أو فى مناسبات.. حسب الفئة المستهدفة.
وهذه الخدمة الفئوية سوف تكون نافعة روحياً، إذ تستجيب لاحتياجات كل فئة، ولكنها أيضاً ستكون نافعة فى تبادل الخبرات بين أبناء الفئة الواحدة، بل وتبادل الخدمات أيضاً.
11- المؤشر الكرازى :
أى أن يكون عندنا تخريج مستمر لخدام جدد، فى المجالات المتنوعة… من خلال فصول لإعداد الخدام، ليس فقط لدارسى التربية الكنسية، لكن أيضاً للشباب والعمال والحرفيين والقرويين… ومعروف أن هناك وسائل عديدة لإعداد الخدام منها :
التعليم المباشر : دروس ومحاضرات وأنشطة.
التعليم الذاتى : حين يخدم الإنسان ويتعلم من خلال الممارسة.
التعليم بالتدريب : حين يخدم المبتدئ مع خادم أقدم منه و أكثر منه خبرة.
التعليم بالالتقاط : حين يلتقط المتدرب من الخدام الآخرين دروساً متعددة، من خلال مشاهدته لهم كيف يتكلمون ويتحاورون، ويخدمون… الخ.
إن الاجتماع الناجح هو الذى يحول السامعين إلى مفتقدين، والمخدومين إلى خدام… وذلك من خلال مجموعات نشاط مختلفة: روحية، إعداد برامج، دعوة متكلمين، افتقاد، معرض، مسرحية، نادى، رحلات، دراسات، بحوث، قرى… الخ.
12- المؤشر التكريسى :
إن نجاح أى خدمة يكون بمدى تخريجها لمجموعة من المكرسين تماماً للرب، فى المجالات المتنوعة: كهنة، رهبان، راهبات، مكرسين، مكرسات… الخ. فهذا مؤشر يدل على عمق تأثير الخدمة، وتأثير المخدومين بها، حتى يتحولون – بنعمة الرب – إلى مكرسين كل الوقت، وكل الوزنات، وكل الكيان، لخدمة المسيح والكنيسة.
وقديماً حين بدأت حركة مدارس الأحد، برعاية قداسة البابا كيرلس الخامس، والارشيدياكون حبيب جرجس، ومجموعة من الرواد الأوائل مثل قداسة البابا شنوده الثالث… تحول الشباب إلى خدام، والخدام إلى مكرسين، والمكرسون إلى كهنة ورهبان وراهبات، ثم إلى بابا الكنيسة نفسه، الذى أختار من بينهم أساقفة ورهبان… الخ. فكان عمل الله معنا فى هذا العصر المبارك… حيث امتدت الخدمة إلى كل إنسان، وكل مكان، حتى إلى قارات العالم كلها.
هذه بعض مؤشرات نراجع بها أنفسنا وخدمتنا، وبالطبع سنجد أننا فى “الموازين إلى فوق” (مز 9:62)، فلا نيأس، “لأن الرب لم يعطنا روح الفشل، بل روح القوة والمحبة والنصح” (2تى 7:1). بل نعرف أننا لا نعمل بمفردنا بل مع الرب… ولا نخدم بطاقاتنا الإنسانية الهزيلة بل بقوة الروح.
“أن لم يبن الرب البيت فباطلاً تعب البناؤون” (مز 1:127).
“أستطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى” (فى 13:4).
“ليس بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحى قال رب الجنود” (زك 6:4).
“الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة” (فى 13:2).
ونعمة الرب تشملنا جميعاً،