فى مقال بعنوان “الحقيقة الغائبة” المنشور بجريدة “الأسبوع” (عدد 10 يناير 2005)، خلص الصديق العزيز المستشار طارق البشرى إلى النتائج التالية :
1- أن الأحداث الأخيرة (الخاصة بموضوع السيدة وفاء قسطنطين) أحدثت جرحاً مع الدولة، لأن الإدارة الكنسية أجبرتها فى لحظة ضعف ووهن، على أن تسلم لها مواطنة بغير حق “… وأن دولة مستبدة… أعطت جزءاً من استبدادها لهيئة خاصة هى الإدارة الكنسية القبطية الأرثوذكسية” كما جاء بنص المقال.
2- كما أن هذه الأحداث تركت “جرحاً لدى المسلمين، لأن هذه السيدة أو السيدتين أو أكثر اللاتى تسلمتهن الكنيسة، كن جميعاً أو بعضهن قد صرن إلى الإسلام”.
3- وجرح ثالث مع القبط “لأن الإدارة الكنسية اكتسبت من الدولة سابقة تعتبرها حقاً، وهى أن تسلم لها الدولة من تطلبه الكنيسة من القبط، وهذا أمر لم يحدث قط فى التاريخ السابق”.
المقدمات التى ساقها المقال :
لقد بنى الصديق العزيز المستشار طارق البشرى هذه النتائج على مقدمات كثيرة ذكرها فى المقال، ونذكر منها :
1- أن الإدارة الكنسية انتزعت لنفسها سلطة الإمساك بالناس، وتحديد أقامتهم، وحفظهم فى أماكن خاصة تسيطر عليها هذه الهيئات من دون الدولة المركزية. لأن هذا الإمساك، والحفظ، وتحديد الإقامة هو من ممارسات استخدام العنف المادى، ومن ممارسات الجبر والقهر، وهو من خصائص الدولة ومؤسساتها.
2- أن الدولة أعطت جزءاً من استبدادها لهيئة خاصة، هى الإدارة الكنسية القبطية الأرثوذكسية، لتمارسه هذه الإدارة على من يتبعونها استبداداً بهم وطغياناً بغير مسوخ تشريعى أو دستورى، أو اعتراف من فكر سياسى يمكن من ذلك.
3- أن الإدارة الكنسية وبعضاً من المطارنة اعتبروا أن هذا حق قانونى لهم… وأورد سيادته بعض مقتطفات مثل: “بمجرد أن اختطفت طالبنا بحقنا القانونى فى مقابلتها واسداء النصائح”… “كنا نتحدث عن قانون يتماشى مع حقوقنا وطالبنا بتفعيله”…
4- أن الدولة سلمت السيدة وفاء لرجال الكنسية، ومورست عليها الحقوق المقول بها، بأن حجزت فى بيت المكرسات بعين شمس، ثم بدير رهبان الأنبا بيشوى، ولم يؤذن لأحد من خارج رجال الإدارة الكنسية أن يلتقى بها، ولا إذن لها أن تلتقى بالنيابة العامة فى غير صحبة رجال الكنيسة. ومضى على ذلك حتى الآن من الوقت والأسابيع ما يجعله حبساً بغير حكم ولا قرار ولا مسوغ من قانون ولا مستند شرعى “ومن هنا يظهر أن الإدارة الكنسية مارست سلطة ضبط واعتقال”.
5- عقب أحداث التظاهر والتشابك مع رجال الأمن والقاء الشرطة القبض على 34 من الشباب، طالبت الإدارة الكنسية بالإفراج عنه، وكأنها الممثل للمواطنين أمام دولتهم، قائلة “نحن متأكدون أن هؤلاء الشباب أخذوا من الطريق العام، ولم توجه إليهم أى دلائل إدانة” فتكون بذلك قد “حققت الأمر، وتأكدت من البراءة، وهى تطالب بالإفراج لأنها رأت ذلك. فالبحث كنسى، والقرار لكنسى، وعلى الدولة أن تنفذه”… وهذه ممارسة للعمل السياسى بكل أبعاده.
6- أن الإدارة الكنسية تمارس السياسة، وهى لذلك تصادر ما عسى أن يظهر من معارضة مسيحية لها بين الأقباط فى صورة حزب سياسى يضم المدنيين من المواطنين المسيحيين، وتحتكر وحدها ما ترى وجهاً للممارسة من أعمال السياسة، لهذا فهى “تقف بشدة أمام نشأة حزب مسيحى فى مصر”، “وضد نشأة الأحزاب ذات المرجعية الدينية”.
7- أن الأحزاب “تطالب” بالسلطة، لكن الإدارة الكنسية “تمارس” السلطة ويمكن أن يتطور ذلك “الحق فى الإمساك بأى مواطن مسيحى، وممارسة ضبطه ووضعه فى مكان من أماكن الكنسية ليستمع إلى النصح والإرشاد” إلى كل من لا ترضى عنهم الكنيسة من مسيحيين تابعين لمذهبها ومعارضين لممارستها فى أى شأن (وليس فقط تبديل الدين)… وهكذا يتم “الضبط والاحضار” لهؤلاء الناس.
8- أن الإدارة الكنسية فى مصر الآن تنشد، ولأول مرة فى تاريخها، العودة إلى “عصور الظلمات” التى كانت بالفاتيكان فى العصور الوسطى.
9- أن الإدارة الكنسية وصحيفة “وطنى” يميلان للإتجاه الإنعزالى بدلاً من الاندماج فى الجماعة الوطنية، كما يظهر فى تظاهرات الشباب بالكاتدرائية من آن لآخر.
10- أن دور المدنيين الأقباط الذى كان موجوداً فى المجالس الملية السابقة يتوارى لحساب الإدارة الكنسية التى “انتقلت من الهيمنة الفردية، إلى التفرد المؤسسى، ثم إلى التوجه الحزبى السياسى، ثم أضافت إلى ذلك نزوعاً إلى السلطة، واستخدام أدواتها فى الضبط والاعتقال. لقد قالت للدولة: أعطنى قطعة من استبدادك، فأعطتها الدولة قطعة من استبدادها”.
حقائق غائبة :
ارجو أن يسمح لى سيادة المستشار والصديق العزيز أن أسوق بضعة حقائق أرى أنها غابت عنه فى الغالب وأحب أن أنبهه إليها :
1- هل مارست الكنيسة سلطات الضبط والاحضار والجبر والقهر والاستبداد؟
الجواب: لا… كل ما مارسته الكنيسة هو المطالبة بإسداء النصائح بحسب العرف الجارى منذ عشرات السنين، حتى يتأكد للجميع أن من طلب تبديل دينه كان بحرية إرادته، وبغير تهديد أو إغواء. وهذا إعمال لمبدأ “لا إكراه فى الدين”… فإذا قبل الشخص النصح كان بها، وإلا فسيترك دينه ويتجه إلى بقية الإجراءات المعمول بها من جهة تغيير الاسم والديانة رسمياً فى أوراقه. وهذا الأمر يتم كل أسبوع فى مديريات الأمن، إذ يستدعى الآباء الكهنة لمقابلة هؤلاء الأشخاص، وكل شئ يتم بهدوء، سواء الاستمرار أو العدول.
أن السيدة المذكورة لم يتم اعتقالها وقهرها، فقد كانت تستطيع أن تعبر عن رفضها للمسيحية من خلال :
أ- عدم نزولها من سيارة الأمن للفيلا.
ب- صراخها من إحدى النوافذ (فالفيلا دور أرضى)، وكانت النوافذ محاطة برجال البوليس من رتب عالية، وبعدد كبير.
ج- اتصالها بالموبايل على رقم ضابط الأمن الذى أعطى لها قبل وصولها.
د- إخبارها رئيس النيابة أنها لا تريد المسيحية، وكان المكان محاطاً بعدد كبير من رجال الأمن.
أين هو – إذن – الضبط والاحضار والجبر والقهر… لقد أعلنت تمسكها بالمسيحية بكامل حريتها، ولا تزال، وهى موجودة فى الدير الآن باقتناع كامل، إلى أن تهدأ الأمور، ويتم ترتيب معيشتها فى المستقبل.
2- هل صارت السيدة إلى الإسلام ثم أعدناها إلى المسيحية ؟
أن إجراءات أشهار الإسلام معروفة فى الدولة، كما سبق أن ذكرنا. وأورد هنا ما قاله السيد المستشار ماهر عبد الواحد النائب العام، فى حوار مع الأستاذ عادل حمودة فى “صوت الأمة”
(عدد 10 يناير 2005)، حيث قال رداً على سؤال حول تسليمها للكنيسة وإكراهها على العودة: “أنا هنا أطبق القانون. وهى أمام القانون لم تكمل بقية إجراءات أشهار إسلامها.. لم اشق صدرها..
ولا أعرف ما بينها وبين ربها.. هى مسيحية قانوناً”… “التعليمات القديمة… وأكثر منها أن يذهب من يريد إشهار إسلامه إلى شيخ الأزهر ويختبره فى إسلامه”… يا صديقى المستشار… هذا عرف شائع وسائد، والعرف أحد أهم مصادر القانون، وأنت واحد من أعظم رجال القانون فى مصر….
3- هل تستبد الكنيسة بالأقباط، سواء بسبب تبديل الدين أو أسباب أخرى مثل معارضة بعضهم للكنيسة ؟
إن كل ما تصدره الكنيسة من عقوبات متدرجة لمن ينحرف سلوكياً أو عقائدياً من أبنائها، هو من أجل الإصلاح فقط، أو درء الفساد الدينى عنهم، ولهذا تأمر بالإيقاف عن ممارسة الشعائر الدينية ليس إلا.. وهى فى إحساس المسئولية الإنسانية تأمر باستمرار المرتب المادى لأسرة الشخص المدان رعاية لهم. وهذا ما حدث مع الجميع، حتى إذا كانوا يأخذون المرتب دون عمل، ولا يقومون سوى بعمل واحد هو الإساءة إلى الإدارة الكنسية. وليس للكنيسة أى سلطة على أبدان الناس، لكى تعتقلهم وتأمر بضبطهم وإحضارهم وقهرهم وجبرهم كما يقول المقال. بل أن الكثير من هؤلاء رفعوا قضايا على الإدارات الكنسية التابعين لها، وهذا حقهم كمواطنين طبعاً، والقضاء هو الذى يفصل فى النهاية. إن سلطة الكنيسة روحية فقط، ولا تمتد إلى الأبدان إطلاقاً.
4- هل تمارس الإدارة الكنسية السياسة ؟
بالطبع لا… ولكنه تملأ الفراغ السياسى الموجود فى الشارع، وفى المدن والقرى، وهو الفراغ الذى أسماه أ. فهمى هويدى “بالموت السياسى”… كيف وأين يذهب الناس للتعبير عن احتياجاتهم أو آلامهم؟ لقد كنا نتمنى أن ينتهى الأمر منذ اليوم الأول فى دمنهور، ولكنه استمر أياماً كثيرة، فتزايدت الأعداد، وبالذات يوم الأربعاء، وكانوا يتوقعون التقاء المطران بالسيدة، وبمجرد أن تم ذلك انصرف الجميع بهدوء، تاركين القرار فى يدى السيدة، بعد أن يتعرف عليه رجال النيابة والأمن. لقد كانت هناك عشرة سيارات أمن مركزى محيطة بالمكان، وكنا نستأذن الأمن فى كل مرة لكى نزورها ونتحدث إليها.
أين “السلطة” هنا؟ وأين “الاستبداد” يا صديقى العزيز؟ وبالتالى فأين “السياسة”؟ حتى فى موضوع الشباب المحبوسين، نحن لم نأخذ لأنفسنا حق التحقيق والتقرير والحكم والضغط لتنفيذ الإفراج. كل ما فعلناه هو إعلان ثقتنا الكاملة فى براءة الشباب المحتجز، لأن البوليس لم يدخل إلى ساحة الكاتدرائية ليمسك بواحد منهم… الجميع أخذوهم من الطريق العام، وقد أنكروا كل التهم المنسوبة إليهم.
5- دور المدنيين الأقباط :
أن الإدارة الكنسية لا تحجر على أى من المدنيين الأقباط أن يمارسوا دورهم السياسى أو الوطنى، حتى المناوئين لها كل يوم فى الصحف ووسائل الإعلام. ولاشك أن غالبية المدنيين الأقباط هم عصب الكنيسة وروحها النابض. ورجال الاكليروس يأخذون شرعيتهم من رضى الشعب عنهم. والمبدأ الجوهرى فى حياة قداسة البابا – كما هو أصلاً فى الإنجيل – أن “من حق الشعب أن يختار راعيه”… وفى الإنجيل “اختاروا أنتم… فنقيم نحن”… هذا فى الشأن الكنسى الدينى، كرسامة كاهن أو أسقف… أما فى الأمور المدنية، وحتى فيما يمسّ منها الدين أو رجاله، فنحن نتمنى وجود منابر يعبر فيها الناس عن نبضهم بطريقة سلمية، فنتخلى نحن عن هذه المهمة، حيث تضطر إلى أن نتحدث مع المسئولين فى الدولة عن ظروف أبنائنا. إن الكنيسة إذا طمعت فى سلطة مدنية تكون قد خالفت المسيح، وأنكرت إيمانها، فهو الذى قال: “مملكتى ليست من هذا العالم”…
أخيراً…
من أعماق قلبى أهدى محبتى لصديقى العزيز المستشار طارق البشرى، وهو – بالمناسبة – أول متحدث مسلم دخل إلى أسقفية الشباب، ليتحدث مع الشباب القبطى ضمن عشرات المفكرين والسياسيين ورجال الإعلام والدراما، سواء فى مجموعة المشاركة الوطنية أو مجموعة التنمية الثقافية بالأسقفية. أهديه محبتى الخالصة، التى أثق أنه يعرف مداها وصدقها، فالخلاف فى الرأى – كما نعلم – لا يفسد للود قضية.
حفظ الله مصرنا العزيزة من كل سوء، ووحدتنا بكل قوة.