معناه أن لا يهتم الإنسان إلا بما هو زمنى أو مادى أو أرضى… وهذا شئ خطير!!، لأن الإنسان فى أصله وجوهره: روحى، أبدى، وسمائى. من هنا كانت الاهتمامات الأرضية فقط، هى نزول بالإنسان والإنسانية من علياء السماء، إلى طين الأرض.
فالإنسان أصلاً مخلوق إلهى، نسمة من القدير، استودعت فى التراب، المادة، الأرض، لفترة محددة من الزمن، ولكنها سرعان ما تعود إلى أصلها السمائى الإلهى الروحانى، حيث الخلود فى الملكوت.
لذلك فإن محاولة حصر الإنسان فى الزمن، هى خنق خطير لإمكانيات الإنسان الأبدية. وكذلك فإن التركيز على الترابيات فقط، دفن للروح الخالد فينا. فإذن كما فى الإنسان جسد يسعى على الأرض، ويقتات بالطعام الحسى، الذى تنبته لنا الأرض، ففى الإنسان روح خالد يتطلع إلى السمائيات، ويتجاوز التراب، والتقويم السنوى، والمادة، والكواكب بكل أنواعها، متسامياً إلى اللاهوت والأبدية.
1- لا فصل ولا تناقض :
– على أن هذا الاهتمام الأبدى، لا يعنى إطلاقاً إهمال الأرض والجسد والمادة والتاريخ وقضايا المظالم الإنسانية للأسرة والمجتمعات… بل بالعكس، فإن الكشف عن جوهر الإنسان الأصيل كنفخة قدسية، تتجاوز إنسانيتها، وترابيتها، وتتعرف على مصدرها الأساسى، الرب، وموطنها الحقيقى، السماء هذا الكشف عن جوهر الإنسان، يجعله ليس مجرد إنسان، بل إنساناً حقيقياً… صورة الله، إنساناً إلهياً، سمائى الطبيعة، يتسامى على الأطماع الفانية، معطاء كالله، ومحب كالمسيح. يبذل نفسه عن أخوته، ويعطى حباً عملياً بلا حدود.
– كما أن الاهتمام الأبدى، والإيمان بالله، يعطى سنداً قوياً للإنسان أمام مصادمات الحياة اليومية، واحتياج الخبز.
– كذلك فإن هذا الاهتمام يشرق على أيام الإنسان فى الزمن نوراً خاصاً. ويعطى لحياته معنى وقيمة. إذ يحس أنه سفير عن السماء بين سكان الأرض، ورسول للمسيح المحبة. فى عالم تنقصه المحبة.
إن الزمن محتوى فى الأبدية، لا فصل بينهما، ولا تناقض بل تقديس وارتفاع وإحياء. لذلك فحينما نهتم بالملكوت، نحن نخدم أنفسنا، وأحباءنا والعالم كله، فالملكوت ليس مستقبلاً بعيداً. بل هو حضور الله فى داخل الإنسان “هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ” (لو 21:17).
الملكوت بداية فى القلب يـنمو مـع الزمـن، وينتهى إلى الخلود..الخلود الذى لا ينتهى أبداً… إذ نكون فى الله.
2- المستقبل يلد الحاضر :
هناك تصور خاطئ فى ذهن الناس، أن المستقبل هو نتاج الحاضر وأن ما نزرعه اليوم نحصده غداً. هذا التصور معكوس فى الواقع. ذلك أن الإنسان يرسم خطوته الحاضرة على ضوء توجه معين فى المستقبل وليس العكس. فالمستقبل حاضر فى ذهننا كإختبار، وتوجه، ورؤيا، وأمنية، والحاضر هو خطوات متتالية. تود أن تصل بنا إلى هذا الحلم، والذى نريد أن نحصده فى المستقبل، هو ما يجب أن نزرعه اليوم.
وأخطر شئ فى حياة الشباب ألا يكون له حلم، وتكون له رؤية. لذلك فرسم المستقبل هو السبيل السليم
الوحيد من أجل حاضر مثمر وسعيد.
3- هناك مستقبل ومستقبل :
وطبعاً هناك فرق بين إنسان يرسم مستقبله الزمنى فقط، ولا يهتم بمستقبله الأبدى، فالأول محصور فى الزمن، يغمط الإنسان حقه فى الخلود وشركة الطبيعة الإلهية، أما الثانى فيتسامى بالإنسان إلى أصله الحقيقى. كصورة الله، ابن السماء، والمستقر نهائياً فى السماء، فى شركة مع الله الخالد.
لذلك فنحن لا نلومك أيها الحبيب حينما تهتم بدراستك أو ملكاتك الفنية أو مواهبك الاجتماعية والإدارية، ومهاراتك التى يمكن أن تساعدك فى تكوين أسرة سعيدة مكتفية مادياً. هذا كله مطلوب ومحبوب. ولكن الأهم والأخطر، هو أن نسقط من الخلود ونرتبك فى الزمان، ونختنق فى ترابه. الأفضل أن نهتم بأبديتنا وخلودنا، وليس فقط بأمور هذا الزمان… “مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟” (مت26:16).
4- ماذا ينتفع الأنسان :
إنه تشبيه جميل، ذلك الذى ذكره توفيق الحكيم، حينما كان يفرق بين مجتمع النمل ومجتمع الصراصير، فالنمل يخزن للمستقبل… إذ أن لديه رؤيا. لذلك فلديه خطة فى الحاضر، واجتهاد فى العمل! أما الصراصير … فلا ترى إلا ما تحت أقدامها، وليس لها رؤيا مستقبلية.
ولعل هذا هو الفرق بين مجتمعات العالم المتقدم، والعالم النامى المتأخر! الفرق هو فى”علم المستقبل” (Futurology)، لذلك فمن المهم أن نخطط للمستقبل بمفهومه الأوسع والخالد، وليس فقط بمفهومه الزمنى والضيق… “لأنه مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟” (مت 26:16).