قانون الإيمان المسيحى، الذى بدأ إعداده فى مجمع نيقية، وهو المجمع المسكونى (العالمى) الذى اجتمعت فيه كل القيادات الكنسية المسيحية لكى “تقنن” الإيمان المسيحى بعبارات واضحة وحاسمة لا تسمع بالإنحراف أو المزايدة أو التلاعب..
كانت المسيحية تتعرض للكثير من محاولات التخريب والهجوم، من الهراطقة الذين انحرفوا عن الإيمان القويم، وهذه كانت سلسلة متتالية الحلقات، استمرت فى القرون الأولى، وكانت هدف الهراطقة سببًا فى “تقنين” الإيمان المسيحى، بما لا يدع فرصة للتحريف أو التشويه أو الفهم الخاطئ.
جاء “آريوس” “لان ابي اعظم مني” (يو14: 28)، ليطعن فى ألوهية السيد المسيح.. ثم جاء “مقدونيوس”، ليطعن فى ألوهية الروح القدس.. وجاء “سابليوس” ليجعل من الأقانيم الثلاثة أقنومًا واحدًا.. وجاء “نسطور” ليفصل لاهوت المسيح عن ناسوت.. وكانت كل هذه الهرطقات سببًا فى عقد مجامع مسكونية عديدة، تناقش فيها قادة المسيحية فى تلك العصور، ليكتبوا وبألفاظ محددة، منطوق الإيمان المسيحى، ليكون هذا القانون مرجعًا ومقياسًا وضابطًا لكل من تسول له نفسه الإساءة إلى هذا الإيمان أو محاولة الانحراف به.
بالحقيقـــــــــة :
هذه الكلمة نقولها دائمًا سابقة لتلاوة كلمات قانون الإيمان، وذلك لنؤكد أن ما نقوله إنما نقوله عن إيمان قلبى حقيقى وبوعى فكرى كامل، وأننا نعنى كل كلمة وحرف ورد بهذا القانون..
وكلمة “قانون” هنا تعنى المسطرة الضابطة والدقيقة، الملزمة والملتزمة، بحيث أننا لا ننطق بهذا القانون كالببغاوات، ولكن بوعى روحى وذهنى وإيمان كامل.
نؤمن :
ما هو الإيمان ؟
يجيبنا الرسول بولس قائلاً: “الإيمان هو الثقة بما يرجى، والإيقان بأمور لا ترى” (عب1:11) . فما معنى هذا الكلام ؟
نأخذ الآية كلمة كلمة :
“الإيمان هو الثقة بما يرجى”..
– الثقة : معناها الارتياح العقلى والقلبى للأمر..
أنا أثق بوجود الله.. معناها أننى مستريح لفكرة أن الكون له خالق أعظم، هو الذى خلقه وأوجده من العدم، وهو الذى يحفظه بيمينه القديرة!!
الله هو أصل هذا الوجود، وموجود من العدم!
ومعروف فلسفيًا أن “الوجود أفضل من العدم”..
الله “واجب الوجود”، و”علة الموجودات”!! هذه عبارات فلسفية تبدو صعبة، ولكنها – فى الواقع –
سهلة جدًا!!
“واجب الوجود”.. معناها أنه أساس الوجود، وبدونه لا وجود لأى شئ آخر: البشر، والشجر، والحجر، وكل شئ!!
– هو أساس وجود البشر! – وأساس وجود الحجر!
– وأساس وجود الشجر! – وأساس وجود الوجود كله!
– وأساس وجود السماء والأرض! – وأساس وجود الملائكة!
– وأساس وجود الأبدية!
وهذه نظرية فلسفية بسيطة جدًا أن كل الموجودات له “خالق”، لها من هو “واجب الوجود”، و”علة المعلولات” أى أساس وجود الموجودات!!
فحين زى السماء والأرض، وكل هذا الكون الشاسع، بلايين المجرات، والشموس، والكواكب والأقمار.. وكل البشر منذ آدم إلى آخر الدهور.. والملائكة.. وغير ذلك.. نجد أن هناك من هو “واجب الوجود”، أى موجود هذه الخلائق كلها، ويستحيل أن يكون إلا واحدًا.. وخالقًا..
لماذا واحدًا ؟
لأنه لو كان هناك أكثر من واحد فبعضهم خلق وأوجد البعض الآخر! أما الواحد الأحد.. فهو الخالق الوحيد فى الكون، وفى كل الأكوان.. فى السماء وعلى الأرض، وفيما بينهما!!
ولماذا هو وحده الخالق ؟
لأنه لو كان مخلوقًا، ومن خلقه هو الخالق!! الخالق الأوحد الذى خلق الكل، هو فوق الكل، ومعزول لمن الكل، ولا يشبهه شئ أو أحد من مخلوقاته!!
أطلنا بعض الشئ فى هذا الأمر، ولكنه هام جدًا للارتياح العقلى، فى حدود الممكن عقليًا.. لسبب بسيط أن عقلنا الإنسانى المحدود هو أحد خلائق الله غير المحدود!! ويستحيل أن نطلب من المخلوق المحدود أن يستوعب الخالق غير المحدود!!
قصة معبرة : طلب ملك من وزيره أن يشرح له الله، ليستوعب بعقله! فأخذ الوزير يفكر كيف يشرح عدم محدودية الله لمليكه المحبوب! فهداه عقله أن يخرج فى نزهه على شاطئ البحر، مع مليكه المحبوب. وبينما الملك يتمشى على شاطئ البحر، جلس الوزير يحتسى فنجان الشاى، وبعد أن فرغ من ذلك، بدأ بمعلقة الشاى، يغرف من ماء البحر، ليضع فى فنجان الشاى! ولما امتلأ الفنجان، بدأ يأخذ من ماء البحر ليضع فى الفنجان أفكان الماء ينسكب من الجانبين!!
الملك كان يراقب الوزير.. فتعجب!! وجاء ينتهره قائلاً: “الفنجان امتلأ عن آخره، ماذا تريد؟ أجابه الوزير؟: “أريد أن أحول ماء البحر، ليدخل فى هذه الفنجان”؟ فانتهره الملك قائلاً: “هل جننت”؟! هل يستوعب الفنجان الصغير هذا البحر الكبير؟!”.. فقال له الوزير: “عفوًا جلالة – الملك! أنا اسأل أيضًا: هل يستوعب العقل الإنسانى المحدود، الله غير المحدود؟!”.. ففهم الملك مقصده وقال: “فعلاً.. يستحيل أن يستوعب عقل الإنسان المحدود، الله غير المحدود” واستراح الملك فى سؤال هذا!!
الله غير محدود.. يستحيل أن يحتويه عقلنا المحدود!! هذه حقيقة منطقية جدًا..
وهناك حقيقة أخرى هامة :
لا يوجد سوى ما لا نهاية واحدة.. لا يوجد غير محدود، سوى غير محدود واحد..
لأنه مادام لا نهائيًا، فلا وجود لآخر بجواره، لأنه فى كل مكان.. لا مكان لآخر بجواره..
وهو غير محدود، فلا وجود لمحدود أو غير محدود بجواره، لأنه لا مكان بجواره لآخر!! ليس له “جوار” لأنه – ببساطة – فى كل مكان !!
كل مكان!! وكل زمان!!وفوق كل الأكوان!!وكل الأزمان!!
هذه الإله الواحد.. غير المحدود زمانيًا ومكانيًا!!
حقًا.. نؤمن بإله واحد!!
ثم نمضى فى قانون الإيمان فنقول:
– “الله الآب”.. بدأن نقترب من هذا الإله الواحد، فالروح القدس المعطى لنا، والذى من خلاله نتعرف على إلهنا العظيم المحب!!
– “الله الآب”.. فالله الآب هو “أصل الوجود” (The Cause)، ولاحظ أن الاب “بالمَتَقَ” وليس “بالهمزة”.. فرق بين الآب والأب!!
الآب = الأصل العام لكل الوجود والموجودات وهى كلمة “سريانية” تعنى ذلك.
أما الأب = فمعناها أب محدود، لأبناء معينين!! هو إذن أب محدود!! أما الآب فهو غير محدود!!
وإن كان “الأب” البشرى المحدود حنونًا على أولاده، فكم بالحرى “الآب” غير المحدود، يكون حنونًا على كل مخلوقاته: البشر، والشجر، والحجر!! السماء والأرض!! الزمن والأبدية!!
“ضابط الكل” (Pantokrator) :
أيقونة “البانطوكراطور” نراها أحيانًا فى “شرقية” الهيكل.. “الضابط الكل”، الجالس على كرة الأرض، وفى يده صولجان الملك!! هذا تعبير رمزى عن الله الآب!! عمومًا نحن لا نرسم الآب متجسدًا، لأن الآب
لا يتجسد!! الابن تجسد!! ولكن أقنوم الابن المتجسد واحد مع الآخر فى الجوهر، ومع الروح القدس!!
ففى الابن “يحل كل ملء اللاهوت جسديًا” (كو9:2).. يستحيل أن ينفصل الآب، عن الابن، عن الروح القدس!!
فالثلاثة أقانيم هى جوهر واحد.. وهنا لابد أن نسأل عن “الأقنوم” و”الجوهر” ولكن ببساطة شديدة ودون تفصيلات لاهوتية كثيرة!!
1- وما هو الجوهر !! (The Essence) .. 2- ما هو الأقنوم؟! (The Hypostasis)..
1- نبدأ بالجوهر الإلهى (The Essence) :
ما هو الجوهر الإلهى؟!
أى جوهر الله العظيم، غير المحدود؟! يستحيل طبعًا أن ندرك الجوهر الإلهى غير المحدود؟! ببساطة
لأن عقلنا محدود..
وهنا نفرق بين نوعين من الدراسات اللاهوتية: اللاهوت السلبى الذى ينفى عن الله ما ليس فيه،
وما لا يتناسب معه ويدعى “The Catechetic”.. “Theology”.. وهذا ما نميل الله نحن الشرقيون، وما نراه فى لاهوت القديس غريغوريوس النزينزى، حيث ينفى عن الله ما ليس فيه، ويثبت القليل من الصفات التى تتوافق مع الله.. ولنأخذ أمثلة من “القداس الغريغورى”:
– “أيها المسيح إلهنا، القوة المخوفة، غير المفهومة (أى التى يعجز البشر عن إدراكها)، التى لله الآب”..
– “من أجل تنازلك غير الموصوف، ومحبتك للبشر”.
– لكن أنت بتعطفك غير الموصوف ولا مخبر به”..
– نمجدك أيها الواحد وحده، الحقيقى، الله محبة البشر، الذى لا ينطق به، غير المرئى، غير المحوى، غير المبتدئ، الأبدى، غير الزمنى، الذى لا يحد، غير المستحيل (أى التغيير)، خالق الكل،
مخلص الجميع”..
فى هذه الفقرة نقى القديس غريغوريوس عن الله ما يلى :
1- إمكانية فهمه. 2- إمكانية وصف تنازله.
3- إمكانية وصف تعطفه. 4- إمكانية الأخبار بتعطفه.
5- إمكانية النطق به. 6- إمكانية رؤيته (فى جوهره)..
7- إمكانية احتوائه. 8- أنه غير مبتدئ (أزلى).
9- أنه غير زمنى (فوق الزمان – سرمدى – أزلى أبدى).
10- إمكانية تحديده. 11- إمكانية أن يتغير.
وأثبت لإلهنا الحبيب ما يلى :
1- الإله القوى المخوف. 2- المحبة للبشرية.
3- التنازل الإلهى العجيب فى التجسد والفداء.
4- أنه الواحد. 5- أنه لا مثيل له (الواحد وحده) أى الفريد، وحيد الجنس.
6- أنه الإله الحقيقى.. فى مواجهة الآلهة الكاذبة.
هكذا كان اللاهوت “السلبى” (Catechetic Theology) ينقى عن الله، ليس له، وما لا يتوافق معه، وكان اللاهوت الإيجابى (Apathetic The dopy) يثبت لله ما فيه، وما ينفرد به عن البشر والملائكة..