كيف يؤهلنا القداس الإلهي للتناول؟
عندما سلم السيد المسيح جسده ودمه لتلاميذه القديسين، كان يقصد أن يجمعهم جميعاً فى جسد واحد “فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد لأننا نشترك فى الخبز الواحد” (1كو 17:10).
لأننا عندما نتناول (جسد الرب ودمه) لا يتحولان فينا إلى طاقة وأعضاء – كمثل الأكل الطبيعى – ولكنهما يحولانا إلى أعضاء فى المسيح ، إلى أعضاء فى الجسد الواحد… “وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً” (1كو27:12).
لذلك لابد وأن يشترك الجميع فى هذا الأكل
لا يوجد فى ضمير الكنيسة استثناء إلا إذ كان الشخص غير معمد أو تحت قانون توبة يمنعه من التناول، أو فى حالة خصام عنيد أو خرج عن إيمان الكنيسة الواحدة، أما كل من يحرم نفسه من المذبح بإرادته وباستهتار فهو محروم من الله، وغريب عن الكنيسة – كما علّم الآباء، وكأنه يعلن عملياً أنه لا ينتمى لهذا الجسد الواحد؛ لأنه كيف تتحقق عضويتنا فى المسيح إذا كنا لا نشترك فى جسده كلنا معاً؟! كيف يقال أنها كنيسة واحدة وأنت ترى البعض يتقدمون للتناول والآخرون يتفرجون؟! إن الكنيسة لا يتحقق معناها ووحدانيته إلا بالتناول – كلنا معاً – من جسد الرب ودمه.
ولكن قد يتخوف البعض من قول معلمنا بولس الرسول: “لأنه الذى يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه، غير مميز جسد الرب” (1كو 29:11)، طبعاً لابد وأن نحترس لكى
لا نكون “مجرمين فى جسد الرب ودمه” (1كو 27:11)، ولكن هذا الاحتراس والحرص لا يمنعانا من التقدم إلى المذبح ، بخشوع وتوبة وإنكسار قلب “فالقلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله” (مز 17:50)، و”من يقبل إلىّ لا أخرجه خارجاً”؛ فتحذير معلمنا بولس ليس معناه أن نترك التناول بل أن نترك الخطية خاصة إذا انتبهنا إلى هذا التحذير الإلهى أيضاً “الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان، وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم” (يو 53:6)، مع نداء الكنيسة فى كل قداس “خذوا كلوا منه كلكم”.
كيف إذاً تتصالح هذه المفاهيم معاً؟ كيف وأنا خاطئ تلزمنى الكنيسة بالدخول إلى الله والتناول من جسده الإلهى دون أن يحسب ذلك دينونة علىّ؟
إن هذا هو دور القداس الإلهى.. أن يعدنى ويهيئنى ويقدسنى لكى أتناول باستحقاق، فالقداس يحمل قوته فيه، لذلك سمى قداساً لأنه يقدسنى، كما أنه يقدس القرابين ويحولها إلى جسد الرب ودمه.
كيف يعدنا القداس للتناول :
1- بالصلوات الطويلة :
فكلنا يعرف أن الصلاة تقدس الأشياء، فنحن نصلى على الأكل لنقدسه، ونصلى على المياه وعلى الزيت وعلى البيوت لنقدسها، بل أن الكنيسة نفسها تصير مكاناً مقدساً لأننا نصلى فيها، وأنت نفسك تحرص أن يصلى على رأسك أب كاهن قديس ليباركك، ويقدسك، فكم بالحرى حينما تجتمع الكنيسة كلها اكليروس وشعب، سمائيين وأرضيين، وفى وسطنا عمانوئيل إلهنا بنفسه، الكل يرفعون صلوات وتسابيح وألحان مطولة منغومة، كم يكون الجو مقدساً ومفعماً بحركات الروح ومشجعاً للنفس على التوبة، والإحساس بحضور المسيح؟! أليست هذه وسيلة رائعة لتقديس النفس وتهيئتها للأتحاد بالمسيح فى التناول؟.
صديقى الشاب – جيد لى ولك أن يدخل كل منا إلى الكنيسة حاسباً فى ضميره أنه أقل الناس وأسوأهم وأنه أحوجهم إلى صلوات كل الكنيسة.. وأن كل المؤمنين قد اجتمعوا معاً الآن؛ ليصلوا عنى ويسندوا جهادى بتسبيحهم وتضرعاتهم.. وأننى أنا الوحيد المستفيد بصلوات كل هؤلاء الأنقياء؛ لأننى العضو الوحيد المريض فى هذا الجسد الرائع.
إن صلوات الكنيسة تقدس الناس والمكان وتلهب مشاعرنا بالتوبة والاشتياق إلى القداسة، والإحساس بحضور المسيح فى حياتنا ، لذلك ليس عبثاً أن تطيل الكنيسة فى تسابيحها وصلواتها، ونغمات ألحانها؛ حتى تهئ الفرصة كاملة لكل نفس أن تأخذ نصيبها من هذا التقديس.. اجتهد أخى الشاب أن تبكر إلى الكنيسة؛ لتأخذ الجرعة كاملة، مرتلاً مع المزمور “يا الله إلهى إليك أبكر” (مز 1:63) سامعاً الوعد الإلهى الصادق “الذين يبكرون إلى يجدوننى” (أم 17:8).
2- بقراءة الإنجيل :
إن الإنجيل فى الكنيسة ليس كتاب تعليم فقط، بل هو كتاب تقديس أيضاً لذلك قال السيد المسيح لتلاميذه، الذين سمعوا كلامه، وتعلموا منه “أنتم الآن أنقياء بسبب الكلام الذى كلمتكم به” (يو 3:15)، فكلمة الله تنقى القلب وتطهره، وتطرد منه قوات الظلمة، وتهيئه للاتحاد بالمسيح فى التناول. وكلنا يذكر قصة الأب الراهب الذى سأل مرشده الشيخ عن عدم استفادته من قراءة الإنجيل؛ فأمره أن يملأ (سلة الخبز) بالماء، وطبعاً لأن السلة
لا تجمع الماء بداخلها؛ فقد استخدمها الأب الشيخ كوسيلة إيضاح؛ ليفهم تلميذه أن الماء وإن لم يستقر فى السلة ولكنه ينظفها، كذلك الإنجيل وإن لم يستقر فى القلب ولكن يغسل الضمير وينقى القلب “قدسهم فى حقك كلامك هو حق” (يو 17:17).
لذلك تؤمن الكنيسة أن ربنا يسوع المسيح يحضر فيها ويقرأ الإنجيل بنفسه لكى ينقينا ويطهرنا، ونحن حينما نسمع الإنجيل فى الكنيسة بخشوع وتقوى، إنما نسلم قلوبنا وعقولنا لعمل كلمة الله الحية التى لا ترجع فارغة “لأن كلمة الله حية وفعالة، وأمضى من كل سيف ذى حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح، والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته” (عب 12:4).
فقراءة الإنجيل فى الكنيسة فى القداس له فعل تقديسى أولاً للقرابين، وأيضاً للمؤمنين؛ ليهيئهم للاتحاد بالمسيح الذبيح فى نهاية القداس… “لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة” (1تى 5:4).
والكنيسة كلها تتقدس بكلمة الله فى المعمودية “لكى يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة” (أف 26:5)، “أليست هكذا كلمتى كنار يقول الرب وكمطرقة تحطم الصخر” (أر 29:23).
لأن “سيف الروح الذى هو كلمة الله” (أف17:16)، يدخل إلى مداخل القلب ليبتر منه كل انحراف، ويكشف له كل ميول رديئة ويحفزه على التوبة وطلب تقديس الروح ، لذلك رأى يوحنا اللاهوتى المسيح “وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه” (رؤ16:1)، ولما تكلم عن الهراطقة، نبه ملاك كنيسة برغامس قائلاً: “فتب وإلا فأنى آتيك سريعاً وأحاربهم بسيف فمى” (رؤ 16:2)، فكلمة الله لنا هى سيف يقطع كل انحراف فينا لذلك رتل داود “خبأت كلامك فى قلبى لكيلا أخطئ إليك” (مز 11:119)، “من كل طريق شر منعت رجلى لكى أحفظ كلامك” (مز 101:119)، “سراج لرجلى كلامك ونور لسبيلى” (مز105:119)، “فتح كلامك ينير يعقل الجهال” (مز 130:119)، وفى المقابل “الخلاص بعيد عن الأشرار، لأنهم لم يلتمسوا فرائضك” (مز 155:119)، لذلك فالإنسان المسيحى يجتهد أن يبكر للكنيسة؛ ليحضر القراءات من بدايتها، حاسباً فى نفسه أنه أثناء القراءة يخضع لعمل تقديس الكلمة لقلبه، ليتهيأ للتناول من الأسرار المقدسة.
3- بالتوبة الجماعية :
لا شك أن التوبة لها عمل تقديسى فى حياتنا، وهى التهيئة الأساسية لقبول المسيح فينا “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات” (مت 2:3)، وعدم التوبة يؤدى إلى هلاك أبدى “إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” (لو 3:13).
القداس يهئ لنا فرصة رائعة للتوبة الجماعية، فيها ينحنى كل الشعب تائباً معترفاً بخطيته، فيسعد قلب الله بهذه الكنيسة التائبة المنسكبة، ويقبلها ويطهرها بروحه القدوس.. وأنا وسط الكنيسة، حتى ولو كانت توبتى ضعيفة مريضة، ولكنها ستقبل وسط الجماعة، مسنودة بتوبة أخوتى ، وأبى الكاهن على المذبح عنى، وهذا هو مصدر قوة التوبة الجماعية وروعتها.. لا تنسى توبة أهل نينوى كجماعة، وكم كانت جديرة برفع غضب الله عن الشعب كله.
إن الفرص التى توفرها الكنيسة للتوبة الجماعية يمكن أن نصنفها تحت هذه البنود:
أ- دورات البخور: حينما يمر أبى الكاهن بالكنيسة ليبخر.. إنها دعوة للتوبة والاعتراف؛ فينحنى كل إنسان ويعترف سراً أمام الله بخطيته، والأب الكاهن ينقلها على المذبح بعد عودته للهيكل ليصلى سر اعتراف الشعب قائلاً: “يا الله الذى قبل إليه اعتراف اللص على الصليب المكرم، اقبل إليك اعتراف شعبك، وأغفر لهم جميع خطاياهم، من أجل أسمك القدوس الذى دعى علينا، كرحمتك يارب وليس كخطايانا”.
والبخور فى الكنيسة رمز للتطهير من الخطية، فعندما تذمر بنو إسرائيل، وعاقبهم الله بالوبأ “قال موسى لهرون خذ المجمرة، واجعل فيها ناراً من على المذبح، وضع بخوراً، وأذهب بها مسرعاً إلى الجماعة، وكفر عنهم؛ لأن السخط قد خرج من قبل الرب، قد ابتدأ الوبأ؛ فأخذ هرون كما قال موسى، وركض إلى وسط الجماعة، وإذا الوباء قد ابتدأ فى الشعب؛ فوضع البخور، وكفر عن الشعب، ووقف بين الموتى والأحياء؛ فامتنع الوباء” (عد46:16-48).
لذلك فعندما أرى أبى الكاهن خارجاً من الهيكل بالشورية ليبخر الكنيسة، يتبادر لذهنى أنها فرصة لتوبة، والعودة إلى حضن الآب؛ فأنسكب أمام الله وأعترف فى الحال بخطيتى، مردداً “حل واغفر واصفح لى يا الله عن سيئاتى التى صنعتها.. الخ”. أو معترفاً بالتفصيل بالخطايا التى سقطت فيها؛ لكى أتقدم بضمير صالح لأتناول من الأسرار المقدسة… وفرصة هذا البخور المطهر تتكرر عدة مرات أثناء الليتورجيا ، فى عشية وباكر والبولس والأبركسيس… وتلاحظ أنه أثناء دورات البخور هذه ، نصلى صلوات فيها طلب غفران الخطايا “مثل الهيتنيات” ، أو ألحان فيها ذكر القديسين “مثل أرباع الناقوس والذكصولوجيات، ومردات الأبركسيس، وطاى شورى، وتى شورى… الخ” لأن أيضاً البخور يرمز إلى صلوات القديسين “وجاء ملاك آخر، ووقف عند المذبح، ومعه مبخرة من ذهب، وأعطى بخوراً كثيراً؛ لكى يقدمه مع صلوات القديسين جميعهم، على مذبح الذهب الذى أمام العرش؛ فصعد دخان البخور مع صلوات القديسين، من يد الملاك أمام الله” (رؤ 3:8،4)، والأربعة والعشرون قسيساً فى السماء “لهم كل واحد قيثارات، وجامات من ذهب، مملوءة بخوراً هى صلوات القديسين” (رؤ8:5)، “لتستقم صلاتى كالبخور قدامك” (مز 2:141).
ب- نداء الشماس: “احنوا رؤوسكم للرب” هذا النداء هو دعوة للتوبة الجماعية، حيث انحناء الرأس هو علامة انكسار القلب بالتوبة أمام الله والخضوع له “أمامك يارب”.
وهنا ينحنى كل إنسان معترفاً بخطاياه، بينما يكون أبونا على المذبح منسكباً، يعترف بخطيته الخاصة وبخطايا وجهالات الشعب، “وإن كنا أخطأنا إليك بالقول، أو بالفعل، فسامح وأغفر لنا كصالح ومحب البشر”، “أذكر يارب ضعفى أنا أيضاً وأغفر لى خطاياى الكثيرة، وحيث كثر الإثم فلتكثر هناك نعمتك، ومن أجل خطاياى خاصة، ونجاسات قلبى، لا تمنع شعبك نعمة روحك القدوس”. وأيضاً فيما يقدم هذه التوبة يصلى التحاليل لغفران الخطايا “فليكن يا سيد عبيدك آبائى وأخوتى وضعفى، محاللين من فمى بروحك القدوس”، “اللهم حالنا وحال كل شعبك من كل خطية، ومن كل لعنة، ومن كل جحود، ومن كل يمين كاذب، ومن كل ملاقاة الهراطقة والوثنيين”، “أى موافقتهم فى رأيهم”.
وكذلك يصلى الأب الكاهن أن يقبل الله التوبة، ويثبتها، ويعطينا أن نثمر كما يليق بالتوبة “اللهم يا حامل خطية العالم، أسبق بقبول توبة عبيدك منهم، نوراً للمعرفة، وغفراناً للخطايا، لأنك أنت إله رؤوف ورحوم، أنت طويل الأناة كثير الرحمة وبار”، “أنعم لنا يا سيدنا بعقل وقوة وفهم؛ لنهرب إلى التمام من كل أمر ردئ للمضاد، وامنحنا أن نصنع مرضاتك كل حين. أكتب أسماءنا مع كل صفوف قديسيك فى ملكوت السموات”.
ويذكر أبونا أسماء أبنائه المتعثرين فى خطاياهم، والمعاقين عن النمو الروحى بسبب مشاكلهم… أمام هذه التوبة الجماعية والروح الواحدة المنسكبة أمام الله، لابد وأن يغفر الله لأنه صادق وأمين. “أن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل؛ حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من إثم” (1يو 9:1)، لذلك يصرخ الشماس معلناً حدوث الخلاص للكاهن، ولكل الشعب، فيرفع الجميع رؤوسهم، ويرتلون بفرح: “أمين كيريا ليصون كير ليصون كيريا ليصون”.. فيقول أبونا: “القدسات (الجسد والدم) للقديسين (المؤمنين المعترفين توا بخطاياهم)”، حقاً لقد صرنا قديسين وتثبتت القداسة فينا؛ بفعل الروح القدس، عندما قدمنا توبة جماعية… ولكن الكنيسة بروح وديعة منكسرة، ترفع صوتها قائلة “واحد هو الآب القدوس واحد هو الابن القدوس واحد هو الروح القدس أمين” معترفة بأن الله وحده هو القدوس، وأن كل قداسة فينا إنما هى انعكاس لأشعة قداسة الله فى حياتنا؛ ونتقدم بناء على هذا الرجاء للتناول من جسد الرب ودمه، وكل منا يقول “أنا لست مستحقاً
ولا مستعداً ولا مقدساً ولكننى محتاج”.
فرصة التوبة هذه تتكرر فى نهاية كل صلاة ليتورجية (رفع بخور عشية باكر)، وفى القداس بصفة خاصة، مع هذا الحوار الرائع بين الشماس والشعب والأب الكاهن.
ج- طوال القداس: نقدم صلوات فيها التماس رحمة الله “يارب أرحم”، “كرحمتك يارب وليس كخطايانا”، “ارحمنا يا الله الأب يا ضابط الكل”.. وصلوات فيها انكسار القلب بالتوبة وطلب التطهير “نحن عبيدك الخطاة الغير مستحقين”، “طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا…” وبالأجمال فإن القداس كله بكلماته الروحية ونغمات الخشوعية، وما يصاحبه من بخور وملابس كهنوتية وأنوار وأيقونات… كله يدعو النفس لتخشع، والتوبة، والدخول فى مجال عمل الروح للتقديس. مع ملاحظة أن هذه التوبة اليومية فى القداس تكمل التوبة التى نقدمها فى الاعتراف ولا تغنى عنها (والتوبة والاعتراف سنفرد لها مقالاً خاصاً بإذن الله).
4- بحلول الروح القدس :
ففى أوشية حلول الروح القدس، يسجد الكاهن، ويصلى سراً “نسألك أيها للرب إلهنا نحن عبيدك الخطاة غير المستحقين، نسجد لك بمسرة صلاحك، ليحل روح القدوس علينا (مشيراً على ذاته)، وعلى هذه القرابين الموضوعة” (مشيراً على القرابين)؛ فيحل فينا الروح القدس؛ ليهيئنا ويقدسنا، ويعدنا لقبول الابن الكلمة فى أحشائنا، بالتناول من جسد الرب ودمه الأقدسين “اعطنى يارب روحك القدوس، النار غير المادية، التى لا يفكر فيها، التى تأكل كل الضعفات، وتحرق كل الأشياء الرديئة (الشهوات)، وليقتل أعضاء الجسد التى على الأرض، ويلجم حركات الفهم التى تقوده إلى الخيالات المملوءة أوجاعاً وآلاماً، وكما يليق بالكهنة يجعلنى فوق كل فكر ميت، وليجعل فىّ الكلمات المطهرة” (صلاة الحجاب الكيرلسى). “الروح القدس يحل عليك وقوة العلى تظلك” (لو35:1)، “ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة” (يو8:16)، “ذاك يمجدنى؛ لأنه يأخذ ممالى ويخبركم” (يو14:16)، “والله العارف القلوب شهد لهم، معطياً لهم الروح القدس كما لنا أيضاً، ولم يميز بيننا وبينهم بشئ؛ إذ طهر بالإيمان قلوبهم” (أع 8:15،9).
فالروح القدس يغسل القلب ، ويطهره، ويبرره، “لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا” (1كو 11:6)، والروح القدس الساكن فينا هو محفزنا على حفظ قداسة هيكله “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس، الذى فيكم، الذى لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم. لأنكم قد اشتريتم بثمن؛ فمجدوا الله فى أجسادكم، وفى أرواحكم التى هى لله” (1كو 19:6-20)، “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم. إن كان أحد يفسد هيكل الله؛ فسيفسده الله؛ لأن هيكل الله مقدس، الذى أنتم هو” (1كو 16:3،17).
فالروح القدس عندما ينسكب فينا فى القداس يطهرنا ويقدسنا، ويحقق عضويتنا فى المسيح، ونكون بالحق هيكلاً مقدساً له، مستعداً لاستقبال المسيح فى سر التناول. “وصيرنا أطهاراً بروحك القدوس” (القداس الباسيلى)، “أيها الملك السمائى المعزى روح الحق، الحاضر فى كل مكان، والمالئ الكل، كنز الصالحات ومعطى الحياة هلم تفضل وحل فينا، وطهرنا من كل دنس، أيها الصالح وخلص نفوسنا”.
هكذا يحملنا القداس على أجنحته؛ ليقدسنا بالصلوات والتسابيح، بالكلمة والتوبة، وأيضاً بحلول الروح فينا.. عندما أدخل الكنيسة أشعر فى ذاتى أننى إنسان سئ للغاية، ولا أستحق مجرد الوقوف على عتبة بيت الله.. ولكن القداس يحملنى؛ فيقدسنى، ويقدمنى إلى الهيكل كإبن محبوب، وينادى الكاهن فيما يضع جسد المسيح فى فمى إن (القدسات للقديسين)، وأتناول بحب وخشوع، حاسباً فى نفسى أننى لست بالحق قديساً، ولكن الله وحده هو القدوس، وقد قدسنى لأنه يحبنى فضلاً..
المجد لك يا ربى يسوع لأنك تركت لنا فى كنيستك هذا الكنز العظيم – القداس الذى يقدسنى فى كل يوم ويقربنى إليك ويتحدنى بك.
الأنبا رافائيل