مخير أم مسيَّر؟!

الرئيسية / مخير أم مسيَّر؟!

مخير أم مسيَّر؟!

هذا السؤال التقليدى مطروح باستمرار على العقل الإنسانى… والعقل الإنسانى يحاول جاهداً الإجابة عليه… وهذه بعض النقاط فى هذا الموضوع الهام.

أولاً: الإنسان مسيَّر فى بعض الأمور

ونقصد بذلك الأمور الوراثية أو الاجتماعية والمادية، فالإنسان قد يرث عن والديه مرض الزهرى أو الأيدز… تماماً كما يرث لون بشرته أو شكله وملامحه أو مستوى ذكائه بناء على الشفرة
الجينية التى يحملها عن والديه. كذلك فى الناحية الاجتماعية… فهذا يولد فى أسرة طبيب أو مهندس كبير… وذاك فى أسرة موظف بسيط. ومن الناحية المادية أيضاً: هذا يولد فى أسرة غنية وذاك يولد فى أسرة فقيرة.

لكن هذا الميراث لا يمنع أبداً من أن يجتهد الإنسان فى إنماء حالته وظروفه الاجتماعية والمادية، وربما يتمكن من معالجة أمراضه الوراثية، وذلك من خلال الاجتهاد البشرى فى المجالات: الطبية، والاجتماعية والمادية… فهناك الآن العلاج الذى يقدم للطفل المولود بالايدز… كما أن هناك من ينتقل من شريحة اجتماعية إلى غيرها حين يتعلم وينمو فى تعليمه حتى إلى شهادات عليا… كذلك هناك من بدأ فقيراً وصار غنياً… وبأسلوب سليم وأمين… وهو ما ندعوه “عصامياً”!

المهم… أن كل هذه الأمور تختص بحياتنا الأرضية وليس بمصيرنا الأبدى… وهو الأهم! لأنه “ماذا ينتفع الإنسان، لو ربح العالم وخسر نفسه” (مت 26:16، مر 36:8).

ثانياً: الإنسان مخيَّر فى مصيره الأبدى

 فمعروف أن الله خلق الملائكة أحراراً، وأعطاهم فرصة ليحددوا موقفهم من الله وملكوته، فمنهم من رفض الارتباط بالرب، واستمداده نوره منه تعالى، كالشيطان وأتباعه، وغالبيتهم فضلوا واختاروا تمجيد الله والارتباط الأبدى به، كالملائكة القديسين.
 لقد قال الشيطان فى قلبه: “أصعد إلى السموات، ارفع كرسّى فوق كواكب الله، اصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلى” (إش 13:14،14)، فسقط من السماء بسبب كبرياء قلبه، ورغبته فى أن يستغنى عن النور الذى كان يستمده من الله، وتصوره أنه قادر أن ينير بذاته، فكان كالمصباح الذى خلع نفسه بنفسه من مصدر الكهرباء، فدخل فى الظلمة الكاملة. ولأن أحداً لم يدفعه إلى ذلك، كان خلاصه مستحيلاً.
 لكن الله، لأنه يعرف أنه سيخلق الإنسان، وسوف يعطيه – أيضاً – حرية الإرادة، ترك الشيطان دون إبادة وكان من الممكن أن يبيده طبعاً، وذلك ليجعل من استمرار وجوده فرصة اختبار واختيار للإنسان، فها قد وضع أمامه الخير والشرّ، وعلى الإنسان أن يختار.
 وبالطبع كان الله يعرف – بسابق علمه – أن الإنسان سيختار الشرّ بغواية من إبليس، إلا أن الله تمسَّك بعطيته لآدم، وهى حرية الإرادة، مهما كلفه ذلك من ثمن باهظ لخلاص الإنسان، إذ يتجسد الرب ويفديه، ويرسل روحه القدوس ليسكن فى الإنسان، ليقدسه مسكناً للعلى!
 لقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله:

– فى القداسة… حيث عاشها فى جنة عدن.
– وفى الحكمة… حيث منحه العقل المفكر.
– وفى الخلود… فالإنسان أخذ من الله هذه الإمكانية.
– وفى الحرية… إذ تركه يختار بنفسه وبإرادته ان يحيا فى الجنة، آكلا من أشجارها وشجرة الحياة، أو أن يختار مشورة إبليس، فيأكل من شجرة معرفة الخير والشر، فيسقط فى العصيان، وتتلوث طبيعته المقدسة.

 ومع أن بعض المفكرين يتصورون أن الله خلق الإنسان، ثم أراد استعباده، لدرجة أن بعضهم قال له: “يا أبانا الذى فى السموات، ابق فيها!”.

بينما قال سارتر: إن الله هو “جوبتر” الذى يداه ملطختان بالدماء من كثرة ضحاياه! وواضح أن فى هذا الكلام منتهى التجنى على إلهنا المحب، الذى خلقنا أحراراً، حتى فى أن ننكره ونتحداه… ولكن – للأسف – اختياراً حراً للهلاك فى الأرض وفى الآخرة! إن يدا الرب ملطختان بالدم، ليس من كثرة ضحاياه، ولكن بدمه الفادى المحب، الذى بدونه ما كان ممكناً خلاص الإنسان، الذى سقط بإرادته الحّرة، وممكن أن يعود إلى الله بإرادته الحرة أيضاً، والذى دفع الثمن الباهظ لذلك هو الرب نفسه، من خلال تجسده، وفدائه، وعمل روحه القدوس، وتأسيسه الكنيسة المقدسة، جسد المسيح وعروسه!



ثالثاً: ومازال الإنسان حراً

 فحتى حينما يعتمد الإنسان على اسم المسيح رب المجد، يبقى الإنسان حراً مريداً… إذ يمكنه أن يستفيد من المعمودية: حيث التجديد الروحى، وميلاد الإنسان الجديد، والصبغة المقدسة، ويمكنه – فى نفس الوقت – أن يرفض هذا كله، وينساق إلى الإنسان العتيق الكامن فى داخله، والعالم الفاسد المحيط به، وعدو الخير الذى يبتغى هلاكه… وحينئذ يمكنه أن يترك المسيح والكنيسة، ويهلك – بإرادته – إلى الأبد.
 ألم يقل الرسول عن بنى إسرائيل: “جميعهم كانوا تحت السحاب، وجميعهم اجتازوا فى البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى فى السحابة وفى البحر… لكن بأكثرهم لم يسرّ الله، لأنهم طرحوا فى القفر” (1كو1:10-5).
 إن حرية الإرادة مكفولة للإنسان حتى النفس الأخير، بدليل قوله :

– قد جعلت قدامك الحياة والخير، الموت والشر… قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكى تحيا أنت ونسلك، إذ تحب الرب إلهك، وتسمع لصوته، وتلتصق به، لأنه هو حياتك.
– “اختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون… أما أنا وبيتى فنعيد الرب” (يش 15:24).
– “إن أخطأنا باختيارنا، بعدما أخذنا معرفة الحق، لا تبقى ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين… كم عقاباً أشرّ تظنون أنه يُحسب مستحقاً من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذى قدِّس به دنساً، وازدرى بروح النعمة” (عب 26:10،27،29).
– “لأن الذين استنيروا مرة (أى اعتمدوا)، وذاقوا الموهبة السمائية (الروح القدس)، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة، وقوات الدهر الآتى، وسقطوا… لا يمكن تجديدهم (أى إعادة تعميدهم) أيضاً للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه” (عب 4:6-6).
– “اجتهدوا يا إخوتى أن تجعلوا دعوتكم واختياركم ثابتين بالأعمال الصالحة، لأنكم إذا فعلتم ذلك، لن تزلوا أبداً، لأنه هكذا يقَّدم لكم بسعة دخول إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح” (2بط 10:1).
– “… أفلا ينصت الله إلى مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً” (لو 7:18).
– “كنت أذكرهم لكم مراراً، والآن اذكرهم باكياً وهم أعداء صليب المسيح” (فى 18:3).
– “ديماس تركنى إذ أحب العالم الحاضر” (2تى 10:4).
– “لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا… ولأجل هذا سيرسل الله إليهم عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب، لكى يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق، بل سرّوا بالآثم” (2تس 10:2).
– “وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله فى معرفتهم، أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض، ليفعلوا
ما لا يليق” (رو 28:1).
– “يقولون لله: ابعد عنا، وبمعرفة طرقك لا نسرّ” (أى 14:21).


رابعاً: مسلسل الدعوة الاختيار

لاشك أن هناك مسلسل واضح فى الكتاب المقدس، من خلاله تتم الدعوة ويحدث الأختيار.

وهذا المسلسل نراه واضحاً فى موقعين من الكتاب المقدس:

1- فى رومية 8

“الذين سبق فعرفهم، سبق فعينهم… والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضاً، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضاً، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً” (رو 29:8،30).

1- سبق المعرفة، بحسب علم الله السابق…
2- ومن خلال سبق المعرفة يتم التعيين، أى تحديد: أسماء من سيقبلون الدعوة…
3- ثم تأتى الدعوة، والكرازة بالإنجيل…
4- وبعلم الله السابق سيستمع هؤلاء للدعوة ويقبلونها بحرية إرادتهم.
5- وهكذا يتم تبريرهم بالإيمان بدم المسيح الفادى، وبالأعمال التى تكمل الإيمان، وتؤكد صدقه، وتأتى كثمار تظهر وجوده فى القلب.
6- وهؤلاء المبررون سيتم تمجيدهم طبعاً، بنعمة المسيح العاملة فيهم، إذ بعد أن:

 تخلصهم من الخطايا.  تقدسهم كهيكل لروح الله.
 ثم تمجدهم فى اليوم الأخير، حين نلبس الجسد النورانى الروحانى السمائى الممجد.


2- رومية 10

“لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص. فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟ وكيف يكرزون أن لم يرسلوا؟” (رو 13:10-15).

وفى هذا نتعرف على مسلسل الخدمة:

1- الله يرسل الخدام. 2- الخدام يكرزون.
3- الناس يسمعون. 4- ثم يؤمنون.
5- ثم يدعون الرب طالبين خلاصهم. 6- ثم يخلصون.


وواضح فى المسلسلين حرية إرادة الإنسان فالرب هو الذى قال سابقاً لأورشليم:

“يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة إردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها و لم تريدوا” (لو 34:13).

كما قال للمفلوج: “هذا رآه يسوع مضطجعاً وعلم أن له زماناً كثيراً فقال له أتريد أن تبرأ” (يو 6:5). ومع أن الرب هو العامل فيكم “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة”
(فى 13:2).

“ولكى ننقذ من الناس الإردياء الأشرار لأن الإيمان ليس للجميع” (2تس 2:3)، إلا أن الرب “يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تى 4:2)، وهو الذى قال أيضاً: “طول النهار بسطت يدى إلى شعب معاند وتقاوم” (رو 21:10).

والرسول بولس فى رؤياه فى طريق دمشق قال: “من ثم أيها الملك اغريباس لم اكن معاندا للرؤيا السماوية” (أع 19:26).

إن حرية الإنسان فى تقرير مصيره أمر ثابت كتابياً وعملياً، ومع أن هناك نصائح محبة من الله وتحذيرات أبوة منه، إلا أن القرار – فى النهاية.
هو قرار الإنسان. فإن كان مثلث الخلاص يتكون من: عمل الله، عمل الكنيسة، استجابة الإنسان، إلا أن الله “مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد وهو يفعل خيراً يعطينا من السماء أمطاراً و أزمنة مثمرة ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً” (أع 17:14) وأعطانا الضمير كصوت منه ينذرنا ويحذرنا ويقودنا إلى الله
( )، كما أعطى فرصة نشر وكرازة بالإنجيل فى كل اللغات، ثم أعطانا شبكة الإنترنت التى من خلالها أنتشرت الكلمة فى كل مكان، وأصبحت متاحة لكل إنسان… حتى أنه يقول الآن لكل منا: “أنت بلا عذر” (رو 1:2).

فالقرار قراراك، ولن يتدخل فيه أحد غيرك… إنها حرية الإرادة التى صبانا بها الله، لكن الحرية تحمل ضمنا المسئولية!

خامساً: مشكلة سبق التعيين

يقول البعض: “أن الله سبق فعيّن كل ما يحدث، سواء كان حدوثه اضطرارياً أم اختيارياً، وسواء كان صالحاً أم شريراً. أى أن كل الحوادث على الإطلاق داخله فى قصد الله، ولابد من وقوعها.

إن الذين سبق فعرفهم، عرفهم بمسرة مشيئته، وبمقتضى القصد والنعمة، لا لأجل أعمالهم التى سيعملونها. الألفاظ “سبق فأعد” و “مهيأة” تدل على إعداد الله السابق خلائقة العقلية، أو تعيينهم، أما للخلاص أو للهلاك، لإظهار مجده. قضى الله سابقاً على بعض الناس والملائكة بالحياة الأبدية، وآخرون بتعينهم سابقاً للموت الأبدى. هؤلاء الملائكة والناس المقضى عليهم سابقاً، والمعينون سابقاً، هم مقصودون خصوصيون، لا يتغيرون، وعددهم معلوم محدود، بحيث لا يزاد ولا ينقص. إن الإيمان والتوبة والطاعة الإنجيلية هى ثمار الاختيار لا أسبابه، ولا يصح جعل الأسباب ثماراً
ولا جعل الثمار أسباباً. إن الإيمان والتوبة هى عطايا الله، وأنه يهبها بقصده الأزلى، ولذلك لا يسوغ أن يحسبها شروط بشرية يتوقف عليها اختيار الله.

إن المؤمنين يؤمنون لأنهم معينون لذلك. أن الاختيار غير مبنى على الأعمال الصالحة مطلقاً.. أن الاختيار هو مجرد مشيئة الله. إن الله باختياره للبعض لم يظلم الذين لم يختارهم، لأن الاختيار هو من أعمال الرحمة، التى هم غير ملزوم بها، ولذلك هو متروك لاستحسانه تعالى. فإذا شاء أن يصنع إحساناً خاصاً مع المختارين، فلا يكون قد ظلم بذلك غير المختارين. إن الله فى إجراء عدله لا ينظر إلى الوجوه، ولكن فى إجراء رحمته، يسوغ له أن يختار من يشاء ويرفض من يشاء. أن اختيار
الله للبعض، من أعمال إرادته المطلقة” (علم اللاهوت النظامى- دار الثقافة المسيحية 1971م –
الباب الثامن).

أسباب المشكلة :
إن الذين نادوا بعقيدة “سبق التعيين” (Pre destination) حيث كلمة destiny أى وجهة
و Pre أى سابقاً… يرون أن الله خلق الناس وحدد للبعض وجهة الخلاص وللآخرين وجهة الهلاك بإرادته المطلقة دون دور للإنسان!!
وهذا بلاشك، طعن فى عدالة الله، إذ كيف يختار هذا الهلاك الأبدى والآخر للحياة الأبدية – بإرادته تعالى وحده، دون تدخل من الإنسان؟!

وللرد على هذه العقيدة الخاطئة يقول :

1- تفسير الغامض بالواضح وليس العكس : من المبادئ الأساسية فى التفسير: أننا نوضح الغامض بالواضح، وليس العكس… أن نوضح رومية 9 وموضوع الاختيار المسبق ليعقوب، وتقسية قلب فرعون، ومثال الأوانى الخزفية، لما هو واضح فى كلمة الله، أن الله عادل ومحب، وأنه خلق الإنسان حراً مريداً، وأن قرار المصير النهائى هو فى يد الإنسان، كما أوردنا سابقاً فى مواضع ومواقع كثيرة فى الكتاب المقدس، بل كما يقول المنطلق أيضاً، إذ يستحيل أن يكون الله ظالماً، فيرسل أناساً إلى الهلاك الأبدى لأنه يريد ذلك، دون تدخل منهم!
2- إساءة تفسير بعض الآيات والاكتفاء بالآية الواحدة : إن الآيات التى يتصور البعض أنها تتحدث عن سبق التعيين، يجب أن نفهمها فى إطار سبق المعرفة، كما قال الرسول بولس فى رومية (رو 29:8،30) “الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم…”.

وحين قال الرسول: “اختارنا فيه (أى فى المسيح) قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة، إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسره مشيئته” (أف 4:1-5)… فهو لا يعنى سبق التعيين بالإرادة الإلهية، المطلقة والمنفردة، ولكن بمقتضى سبق معرفة.

 وينطبق هذا على قول الرسول: “فلنا نصيباً معينين سابقاً حسب قصد الذى يعمل كل شئ حسب رأى مشيئته” (أف 11:1)، لأن رأى مشيئة الله سيتحدد بناء على سبق معرفته بموقف الإنسان حين يولد ويسلك دروب الحياة. وذلك بدليل قوله بعد ذلك: “إذ سمعتهم كلمة الحق، إنجيل خلاصكم، الذى فيه أيضاً إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس” (أف 13:1).. لاحظ كلمات: “سمعتم”، “أمنتم”، “ختمتم”… فالله يعمل فينا بروحه القدوس حينما نقبل كلمة الله بإرادتنا الحرَّة، ونتجه نمو الخلاص بالمسيح!
 وهذا ما حدث فى تسالونيكى: “قبلتم الكلمة فى ضيق كثير بفرح الروح القدس، حتى صرتم قدوة لجميع الذين يؤمنون… ومن قبلكم اذيعت كلمة الله…” (1تس 6:1-8). هناك موقف إرادى من الإنسان، بلا أدنى شك!
 كذلك فى قوله عن مؤمنى أنطاكية: “فأمن جميع الذين كانوا معينين للحياة الأبدية” (أع 48:13)، فهذا التعيين كان بسبب سبق المعرفة.
 وسبق العلم ينطبق أيضاً على قول معلمنا بطرس يوم الخمسين عما فعله اليهود مع رب المجد: “هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة الله المحتومة، وبعلمه السابق، وبأيدى أثمة صلبتموه وقتلتموه”
(أع 23:2). إن التحتيم هنا نابع من سبق المعرفة والعلم. وبالنسبة للإنسان، فالله لم يحتم عليه شيئاً، لا يهوذا ولا اليهود ولا بيلاطس، فالقرار نبع منهم، ولكن الله يخرج من الشر خيراً ومن الظلمة نوراً، فأخرج من صلبهم للمسيح خلاصاً أبدياً للبشرية طراً.
 لهذا نصيغ الأمر هكذا: “الله يعرف ولكنه لا يفرض” God knows but doesn’t impose فالإنسان كائن حرّ مريد، يقرر ما يراه لنفسه، من جهة الكثير من قرارات الحياة الأرضية، أو قرار المصير الأبدى.

3- رومية 9

إن كل مشكلة “سبق التعيين” جاءت أساساً من فهم خاطئ للإصحاح التاسع من رومية… فلندرس هذه النقطة…

1- إن معلمنا بولس الرسول كان يتحدث فى رسالته إلى رومية عن “التبرير بالإيمان العامل”، الإيمان بالسيد المسيح الفادى.
2- وقد قسًّم رسالته هكذا:

 فكرة التبرير بالإيمان (ص 1 – 3) :

– الأمم أخطأوا (ص 1). – اليهود أخطأوا (ص 2).
– الجميع أخطأوا (ص 3).

لهذا قرر الله أن يخلصنا ويبررنا بالإيمان بدمه الفادى.

 أمثلة للتبرير بالإيمان العامل (ص 4 – 5) :

– إبراهيم (ص 4). – آدم (ص 5).

 ثمار التبرير بالإيمان العامل (ص 6 – 8) :

– خلصنا من الخطية بالمعمودية (ص 6). – خلصنا من الناموس (ص 7).
– جعلنا أبناء الله (ص 8).

 اليهود والتبرير بالإيمان العامل (ص 9 – 11) :

– اختارهم (ص 9). – رفضهم (ص 10).
– سيعيدهم (ص 11).

 التبرير فى الحياة العملية (ص 12 – 16) :

– المؤمن والكنيسة (ص 12). – المؤمن والدولة (ص 13).
– المؤمن والضعفاء (ص 14،15). – تحيات ختامية (ص 16).

من هنا نعلم أن الرسول – فى حديثه عن التبرير بالإيمان بالمسيح – عرض لموقف اليهود من التبرير فى ثلاثة إصحاحات هى 9،10،11…

– ص 9: اختيارهم. – ص 10: رفضهم.
– ص 11: الوعد بالعودة.
وفى الإصحاح التاسع تحدث بالتفصيل عن:

أ- اختيار يعقوب ورفض عيسو … فهل كان هذا بسبق تعيين مطلق… طبعاً لا.. بل بسبق معرفته أن عيسو سيبيع بكوريته، وسيكون زانياً ومستبيحاً. وعلى كل فاختيار يعقوب ورفض عيسو كان لميلاد المسيح بالجسد،, وليس شيكاً على بياض للخلاص. فالخلاص هو لكل من يؤمن، وباب التوبة مفتوح. ومع أن عيسو فقد البكورية أو ميلاد المسيح منن نسله بالجسد،
إلا ان باب الإيمان والتوبة والخلاص مفتوح للجميع. أن ما حرم منه عيسو، ولم تقبل فيه توبته، هو البكورية وأن يأتى السيد المسيح من نسله، وهذا أمر مبارك أن يأتى المسيح من نسله، ولكنه غير جوهرى للخلاص، فنحن كمصريين لم يأت المسيح من نسلنا، لكن باب الخلاص مفتوح أمامنا.

يجب أن نميز هنا بين “اختيارين”:

اختيار زمنى : لميلاد المسيح فى نسلنا بالجسد. – اختيار أبدى : للخلاص فى الملكوت.

فى حرم منه عيسو ونسله كان الإختيار الزمنى، أما الإختيار الأبدى فمفتوح أمام الجميع.

ب- تقسى قلب فرعون إن قول الرسول إن الله قسى قلب فرعون، لا يعنى إطلاقاً سبق التعيين للهلاك، بل يعنى أن الله بسبق معرفته، علم أن فرعون سيقسى قلبه ولا يطلق بنى إسرائيل بسهولة، رغم الضربات، ورغم اعترافه: “أخطأت إلى الرب”… لذلك تركه الرب لقساوة قلبه غير التائب، فازداد قساوة ثم هلك. لكن الإرادة إرادته، والقرار قراره، ولا دخل لله فى هلاكه، فهو الذى اختار ذلك بحرية.
ج- آنية الكرامة وآنية الهوان يستحيل أن نتصور أن الإنسان هو مجرد مادة جامدة مثل الخزف، فالخزف بلا إرادة، أما الإنسان فيمارس حرية إرادته، لذلك يجب أن نفهم المثل من خلال سبق العلم الإلهى، وليس من خلال الحروف الجامدة.

ونلاحظ هنا أن الرسول يتحاور مع من يسمعه ، وأحياناً يستخدم “لغة الزجر”، أى من أنت حتى تجاوب الله؟ أى إلزم حدودك أيها الإنسان، فالله قادر على كل شئ. وهذا حقيقى، لكن الله القادر على كل شئ عادل ومحب بآن واحد، ويستحيل أن يكون ظالماً يميز بين أبنائه، وهو الذى يتسم بالعدل غير المحدود.

فلنفهم – إذن – ونفسر هذا الإصحاح “الغامض” بعض الشئ، بما هو واضح ومستقر فى الكتاب المقدس، أن الله خلق الإنسان حرَّاً مريداً، وحريته يقابلها مسئولية… إن الله ينصحنا كأب، ويحذرنا كملعم، ويشجعنا على التوبة، بل ربما يضغط علينا من خلال تجارب وتأديبات لنستفيق… ولكن القرار فى النهاية – هو قرارنا نحن، فقد منحنا حرية الإرادة ولن يسحبها منا…

المهم… المسئولية… فبعد أتخاذ القرار، نتحمل المسئولية والتبعات… “فلنختر الحياة لكى نحيا”…

ولربنا كل المجد.

الأنبا موسى

مشاركة المقال