ملامح التوبة الأرثوذكسية –
التوبة
هى الصحوة الروحية، التى فيها يتحرك الإنسان، بوعى كامل، وإصرار ثابت، من منطقة الخطيئة والتعدى، إلى حضن المسيح، وحياة الكنيسة.
والتوبة فى كنيستنا الأرثوذكسية، وبحسب المفهوم الكتابى، يجب أن تشتمل على :
1- الندم على الخطيئة، من كل القلب، بحيث يشعر التائب أن ما عاشه هو نوع من الموت الروحى، والإنفصال عن الله، والتدمير المستمر للكيان الإنسانى. فالخطيئة – قطعاً – تدِّمر الروح الإنسانية، إذ تحرمها من نسيم الروح القدس، وفرحة الرضا الإلهى، وتجعل الروح فى حالة مجاعة خطيرة، تؤدى إلى المزيد من التردى فى وحل الآثام.
كما أن الخطيئة تدِّمر الذهن، فالعقل المنشغل بالآثام، يستحيل أن يكون قادراً على التركيز والإنتاج، كما لا يمكن أن يكون مستنيراً بنور الله، قادراً على الإفراز والتمييز، وعلى إختيار القرار السليم، والخطوة الصائبة.
كذلك تدمر الخطيئة النفس، فالنفس الآثمة تكون دائماً مرتبكة ومنفلتة وغير متماسكة، فاقدة للسلام والسعادة “لا سلام، قال الرب للأشرار” (أش 22:48) بينما تكون النفس التائبة، المنضبطة بالروح، والمقدسة بالنعمة، قادرة على قمع تيارات الإثم العاملة فى الداخل والخارج معاً، إذ تسيطر بقوة الروح القدس على غرائزها، وحاجاتها النفسية، وعلى عاداتها وعواطفها وإتجاهاتها فتصير نفساً هادئة، يشع منها سلام سمائى.
كما أن الخطيئة تدِّمر الجسد، وهذا أمر معروف، فالنجاسة لها أمراضها الخطيرة، وأخطرها الإيدز الذى يحطِّم جهاز المناعة، والكالاميديا التى تصيب الأنثى بالعقم، والهربس المؤلم والضار… الخ. وما ينطبق على النجاسة من حيث أضرارها على الصحة الإنسانية – ينطبق على التدخين، الذى يدِّمر الرئتين والقلب والمعدة والإبصار.. وينطبق أيضاً على المخدرات التى تتسبب فى ضمور العقل، مع آلام الإنسحاب الرهيبة، وعلى الخمر… التى تتسبب فى سرطان الكبد وفشل الكلى.
كذلك فالخطيئة تدِّمر العلاقات الإنسانية، إذ يستحيل على إنسان أن يقبل التعامل والصداقة مع إنسان شرير ومنحرف.. بينما يكون الإنسان التقى، موضع حب وثقة من جميع الناس.
هكذا تكون التوبة هامة فى حياة الإنسان، وأول مقوماتها الندم على الخطايا، لما تجلبه من أضرار رهيبة على الإنسان.. وهكذا يتقدم التائب إلى..
2- العزم على ترك الخطيئة، فبدون هذا العزم، يتحول التائب إلى إنسان يتمنى دون أن يجاهد، ويتكلم دون أن يفعل. العزم على ترك الخطيئة يظهر من الجهاد الأمين الذى يبذله الإنسان، كى يتخلص من هذه الأمور السلبية، وهكذا يحرص على أفكاره، وحواسه، ومشاعره، وإرادته، وسلوكياته، مقاوماً كل إغراء أو ضغط، مظهراً للرب نية صادقة فى التوبة والجهاد والحياة المقدسة، وهنا نتذكر قول الحكيم: “من يكتـم خطايـاه لا ينجح، ومن يقر بها ويتركها يرحم” (أم 13:28).
3- الإيمان بدم المسيح.. فبدون هذا الدم الإلهى، يستحيل أن يخلص إنسان، لأن دم المسيح:
+ يغفـر لنا خطايانا.. “الذى فيه لنا الفداء، بدمه غفران الخطايا” (أف 7:1 – كو14:1)، “وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة” (عب 22:9).
+ يطهرنا من كل خطية… فالغفران يخص الماضى، أما التطهير فيخص الحاضر، حينما ينقينا دم المسيح من خطايانا الخفية والظاهرة “ودم يسوع المسيح إبنه يطهرنا من كل خطية” (1يو 7:1).
+ يقدسنا للرب.. “لذلك يسوع أيضاً لكى يقدِّس الشعبَ بدم نفسه، تألَّم خارج الباب” (عب 12:13)، والقداسة هنا تعنى التخصيص، بحيث يكون الإنسان بكل كيانه للرب.
+ يثبتنا فيه… كما هو مكتوب “من يأكل جسدى ويشرب دمى، يثبت فىّ وأنا فيه”
(يو 56:6) فالتناول من جسد الرب ودمه، هو وسيلة إلهية قوية للثبوت فى الرب، ولكى يسكن الرب فى داخلنا: فكراً، ووجداناً، وسلوكاً..
+يحيينا حياة أبدية.. لأن “من يأكل جسدى ويشرب دمى، فله حياة أبدية، وأنا أقيمه فى اليوم الأخير” (يو 54:6) فالتناول إذن هو طريق الملكوت والخلود.
الإنسان التائب لا يعتمد على ذراعه البشرى الضعيف، خلواً من القوة الإلهية، والنعمة المخلِّصة لجميع الناس، إنه يجاهد قدر طاقته كى لا يسقط، ولكنه يعتمد على إقتدار الرب فى الخلاص، ومعونة نعمة الله العاملة فيه.
4- الإعتراف أمام الكاهن… وهذا تتميماً لكلام السيد المسيح لمعلمنا بطرس: “وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض، يكون مربوطاً فى السموات، وكل ما تحُّله على الأرض يكون محلولاً فى السموات” (مت 19:16) وهو نفس ما قاله الرب للتلاميذ: “الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض، يكون مربوطاً فى السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً فى السماء” (مت 18:18) ذلك لأن الرب بعد قيامته المجيدة، قال لتلاميذه: “سلام لكم، كما أرسلنى الآب أرسلكم أنا، ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت” (يو 21:20-23) وفى الإعتراف، يأخذ التائب – كما علمنا قداسة البابا شنوده الثالث – حِلاًّ وحَلاًّ… الحِلْ من الخطايا، والحَلْ للمشكلات الروحية التى تعوق نمونا الروحى.
والإعتراف ضرورة كتابية – كما ذكرنا سابقاً – وضرورة عملية، إذ يحتاج الإنسان إلى خبرة أكبر تقوده وترشده، وضرورة نفسية، ففيها تستريح النفس المجهدة من توترات السقوط والضغوط والمشاكل. ذلك كله بفعل روح الله القدوس، العامل فى سر التوبة والإعتراف، والقائد لكلٍ من الأب الكاهن والإنسان المعترف…
التوبة – إذن – هى الهدف الأول من الخدمة، لأن الرب قد قال: “إن لم تتوبوا، فجميعكم كذلك تهلكون” (لو 3:13،5)… ومعلمنا بولس يقول: “فالله الآن، يأمر جميع الناس، فى كل مكان، أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل” (أع 30:17)..
ألم تكن هذه وصية معلمنا بطرس – بالروح القدس – لجميع السامعين فى يوم الخمسين: “توبوا، وليعتمد كل واحد منكم على إسم يسوع المسيح، لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس؟!” (أع 38:2).
إن النداء الأساسى للخادم، هو نفس نداء المعمدان: “توبوا لأنه قد أقترب ملكوت السموات” (مت 2:3)، وهو نفس ما نادى به بعد ذلك رب المجد، وهو يكرز ببشارة الملكوت (مت 23:4،35:9)، موصياً تلاميذه قائلاً: “وفيما أنتم ذاهبون إكرزوا قائلين: أنه قد اقترب ملكوت السموات” (مت 7:10)، وكما كان يقول للجموع: “قد كمل الزمان، وأقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر 15:1)، انطلق التلاميذ إلى كل الأرجاء، “فخرجوا وصاروا يكرزون أن يتوبوا” (مر 12:6).
ملامح هامة للتوبة
لكى تكون التوبة ناجحة، يجب أن تشتمل على الملامح التالية:
1- سريعة : فما أخطر تسويف العمر باطلاً.
+ “إنها الآن ساعة لنستيقظ مـن النوم، فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا” (رو11:13).
+ “فالله الآن يأمر جميع الناس فى كل مكان أن يتوبوا، متغاضياً عن أزمنة الجهل” (أع30:17).
+ “اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم” (عب 7:3،7:4).
+ “هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص” (2كو 2:6).
إن خطورة تأجيل التوبة تأتى من التالى :
+ من يضمن عمره، حتى يؤجل توبته إلى الغد؟
+ القيود الحريرية للخطية، ستتحول مع الوقت إلى قيود حديدية، تصعب معها التوبة، وتتطلب جهاداً أكبر.
+ إن تأجيل التوبة يعطى فرصة لأصدقاء السوء أن يسحبونا إلى الخلف، ويورطونا فى نوعيات وكميات من الخطايا، أكثر مما كان.
إن التائب الصادق، يجب أن ينطلق بتوبة كالصاروخ حامل سفينة الفضاء، الذى يجب أن يمرق عنان السماء بسرعة معينة، حتى يفلت من الجاذبية الأرضية.
2- حاسمة : فالتائب المتردد :
+ “لا يظن أنه ينال شيئاً من عنــد الـــرب” (يع 7:1).
+ “رجل ذو رأيين هو متقلقل فـى جميع طرقه” (يع 8:1).
ومن المهم أن يحسم الإنسان أموره، بعد أن يحسب حساب النفقة قائلاً: “كم من أجير لأبى، يفضل عنه الخبز، وأنا أهلك جوعاً.. أقوم وأذهب إلى أبى وأقول له: يا أبى أخطأت..” (لو 17:15،18)..
إن الحسم ينتج من الإقتناع.. فإذا ما إقتنع الإنسان بخطورة الخطيئة، وإمكانيات الدمار الهائل الذى تحدثه فى الكيان الإنسانى، سوف يسرع بالتوبة دون تردد، ودون إلتفات إلى الوراء، وإلا صار كامرأة لوط التى تحولت إلى عامود ملح، ناظرة وراءها إلى سدوم المحترقة.. لهذا يوصينا الرسول قائلاً: “اذكروا امرأة لوط” (لو32:17).
وإن كانت امرأة لوط شبيهة ببنى إسرائيل حين خرجوا من أرض مصر، ولكن قلوبهم لم تخرج مع أجسادهم، فتذمروا على موسى كثيراً، مشتهين العودة إلى قدور اللحم والُكرَّاتْ، إلا أنَّ إبراهيم أب الآباء يقدم لنا النموذج البديل، إذ خرج من أرضه ومن عشيرته، فى حسم شديد، وبإقتناع كامل، حتى دون أن يعلم إلى أين هو ذاهب، لأنه آمن بالرب، واقتنع أنه قادر على تحقيق الوعد.
من هنا نقول أن التوبة العقلانية أكثر ثباتاً من التوبة العاطفية. توبة الحسابات أثبت وأعمق من توبة الإنفعالات. توبة الإقتناع الواعى أقوى من توبة المشاعر الجياشة.. نعم.. لابد من عاطفة ومشاعر نحو الرب.. لكن المشاعر دون إقتناع، لا تثبت أمام عواصف الشيطان، وإغراءات الخطيئة، وضغوط الأصدقاء.
3- شاملة : فالتوبة السليمة يجب أن تشمل كل جوانب النفس، وزوايا الحياة..
+ إنها توبة الفكر، عن كل إنحراف ذهنى.
+ وتوبة الحـواس، عن كل إستخدام خاطئ.
+ وتوبة القلب، عن كل مشاعر سلبية.
+ وتوبة الإرادة، عن كل نية غير سليمة، أو إتجاه غير بنَّاء.
+ وتوبة الأعمال، عن كل تصرف سلبى، أو سلوك لا يمجد الله.
+ وتوبة الخطوات، إذ تلتزم بطريق الملكوت.
إن أخطر ما فى التوبة، أن تظل خطيئة محبوبة، مقبولة منا، ولا نجاهد ضدها.. فالذى لا يعطى الرب كل شئ، كأنه لم يعطه أى شئ.
4- مستمرة : فالتوبة فى المفهوم الأرثوذكسى والكتابى – هى توبة مستمرة طوال العمر.. وهذا واضح من غسل الرب لأرجل تلاميذه، دون تكرار غسل أجسامهم.. فالمعمودية لا تتكرر.. لكن التوبة تتكرر، إذ تتسخ أرجلنا من سلوكيات هذه الحياة، ونحتاج أن نغسلها.
وما أحلى أن يحاسب الإنسان نفسه بعد كل سقطة، ويقوم!!
ولكن أحلى من ذلك، أن يحاسب الإنسان نفسه قبل أى سقطة، فينتصر بنعمة الله!!
إن التائب الحقيقى يتوب كل يوم، بل كل لحظة راجعاً بقلبه إلى الله على الدوام.. إنه فى حركة دائبة بين الترابيات والسمائيات.. كلما جذبه العالم أو الجسد أو إبليس إلى أسفل.. أسرع منتفضاً ومنطلقاً إلى أعلى.
التوبة تجديد ذهنى مستمر.. وميطانية دائمة.. التوبة قيامه أولى.. وحياة متجددة.. تمهدنا للقيامة الثانية، وتنقذنا من الموت الثانى.
5- مثمرة : “فإصنعوا أُثماراً تليق بالتوبة” (مت 8:3).. فالمسيحية لا تكتفى بالشق السلبى فى التوبة، أى الخلاص من السلبيات، بل تتجه بنا إلى الشق الإيجابى، أن نصنع أعمالاً مقدسة، ونطرح ثماراً لائقة. ومن غير المعقول أن شجرة التوبة تظل عقيمة، بينما الرب يطلب منا ثمار الروح: المحبة، والفرح، والسلام، وطول الأناة، واللطف، والصلاح، والإيمان، والوداعة، والتعفف (غل 22:5).
لقد أثمرت السامرية بتوبتها قداسة شخصية وخدمة جهارية.
وأثمر زكا بتوبته عطاءً سخياً، وتعويضاً مناسباً لمن ظلمهم.
وأثمرت المجدلية حباً، وبقدر ما أحبت الخطيئة، أحبت الرب، محبة نادرة وقوية.
نيافة الأنبا موسى