من هو قريبى؟
كان سؤال الناموسى للرب يسوع ليجربه.. حينئذ قال له الرب مثل السامرى الصالح (لو 25:10).
فمن هو قريبى؟
أولاً: من هو الإنسان المسيحى؟
الإنسان المسيحى يفكر بطريقة تختلف كثيراً عن أهل هذا العالم، ويرى بعين تختلف كثيراً عن العين البشرية الطبيعية.
فالإنسان المسيحى ليس هو إطلاقاً الإنسان المسيحى بالهوية أو بالبطاقة الشخصية.
والإنسان المسيحى ليس هو المسيحى بالطقوس والتديّن، لأنه يمكن أن يكون الإنسان طقسياً ومتديناً ولكن ليس إلى العمق، بدليل أن أحد الكهنة عبر بهذا الإنسان ولم يهتم به، ولاوى أيضاً (أى أحد الشمامسة) عبر به أيضاً ولم يهتم. يمكننا أن نكون مسيحيين بالشكل الطقسى ولكن الله لا يكتفى عند هذا الحّد، ويريد أن يسألنا دائماً عن الجوهر فى الأعماق.
الإنسان المسيحى ليس هو مسيحى الطائفة، مسيحى التديّن المتعصّب. فهو ببساطة وبعمق وربما بصعوبة، هو إنسان اتّحد بالمسيح. أو كما قال القديس اغسطينوس وهو يعمّد بعض الوثنيين بعد أن اعتمدوا: “افرحوا يا اخوة لأنكم لم تصيروا مسيحيين فحسب، بل ها قد صرتم مسحاء أيضاً”. هناك فرق بين أن أكون منتمياً إلى طائفة أو دين أو أى إحساس قبلى معيّن، وبين أن أكون صورة المسيح الحقيقية، أى أن يكون المسيح ساكناً فى أعماقى، فى قلبى وفكرى وإحساسى وكيانى. لذلك نحن نهتم جداً بتعبيرات معلمنا بولس الرسول التى يكرر فيها تعبير “فى” إذ يقول: “استطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى”. أو يقول أيضاً: “يحلّ المسيح بالإيمان فى قلوبكم”.
الإنسان المسيحى لا يتطلّع للمسيحية على أنها دين أو على أنها طائفة معينّة أو فكر ومعتقدات فقط. كل هذه الأشياء موجودة ولكن عندما يبحث فى أعماق الموضوع فإنه يجد أن الحياة فى المسيح وبه، الإتحاد فى شخص المسيح حتى أنه يصير ساكناً فى الفرد. هذا هو جوهر الإفخارستيا. قال الرب: “من يأكل جسدى ويشرب دمى يثبت فىّ وأنا فيه”. هذا التعبير يختلف عن أى دين آخر، وعن أى مذهب اجتماعى أو اصلاحى آخر. فكل زعيم من الزعماء المصلحين فى التاريخ كلّه تّحدث عن أمور جميلة وجاهد لكى يطبّقها، ولكى يقنع الناس بأن يطبّقوها هم أيضاً، ولكنه فى النهاية مات وأنتهى. وأما المسيح فحينما كلّمنا عن مبادئ جميلة، لم يتركنا للمبادئ نعتنقها، ولكنه جاء وسكن فى أعماقنا. إنه الزعيم الوحيد الذى استطاع أن يسكن فى تابعيه. من هذا المنطلق نفهم الإنسان المسيحى. أنه وعاء وإناء فيه يسكن روح الله القدوس، وشخص المسيح المبارك وهكذا يتّحد الإنسان المسيحى ويكون بالحقيقة مسيحياً.
ثانياً: كيف (عملياً) أكون مسيحياً؟
أعتقد أن الإنسان المسيحى يستطيع أن يصل إلى هذه الحالة بالصلاة المتواترة التى تتحوّل عنده إلى شئ كالنسيم أو كالهواء. أنه لا يستطيع أن يحيا بدون هذا النسيم الإلهى. وهو أن يتصوّر من لحظات الصلاة فرصة جميلة للتواجد فى حضرة الله فهذا قليل. شركة مع الله فإن هذا أيضاً قليل. ولكن فى المسيح نقول أن هذه فرصة لإمتصاص الحياة الإلهية، أو لإستنشاق العبير الإلهى.
الصلاة هى فرصة تنفتح فيها حياتنا على حياة الله، وحياة الله تنفتح على حياتنا. وهكذا يكون هنالك نوع من الأخذ للحياة الإلهية أو للسكيب الإلهى. الصلاة فرصة فيها يشكلّنا الله، تماماً كالخزّاف أو الفخّارى الذى يستطيع من طينة خام، أن يصنع شيئاً جميلاً جداً. لذلك اعتقد أن عالمنا ومسيحيتنا وكنائسنا بحاجة إلى مزيد من الصلاة.
الصلاة تغيّرنا وتجليّنا. السيد المسيح عندما كان على جبل التجلّى كان يصلّى، وفيما هو يصلّى تغيّرت هيئته. كذلك الإنسان المسيحى يصلّى، وفيما هو يصلّى تتغيّر هيئته، ويصير مبيضاً كالثلج، نقياً بقدر ما يأخذ، وبقدر ما يغتسل فى الدم الإلهى، وفى الحضرة الإلهية. لذلك فليكن أمامنا هذا العهد مع الله، إننا سنستنشق عبيره كل يوم فى الصباح وفى المساء، فى وسيلة المواصلات، وفى مكان العمل، فى مكان الدراسة، وفى حجرة النوم، وفى لحظات الإسترخاء. نحن نحيا حياة باطنية خاصة. فيها نحّس أنه بيننا وبين المسيح حبل سرّى. أو يمكننا أن نقول أنه حبل سرّى، لأنه بالحقيقة كما أن الجنين يتغذى من أمه من خلال هذا “الحبل السرّى” كذلك الإنسان المسيحى بالصلاة يكون هنالك حبل سرّى يستطيع أن يمتّص منه العصارة الإلهية. وهكذا تكون له حياة حقيقية فى المسيح، والمسيح يملأ حياته.
+ المسيحى يحتاج أيضاً أن يقرأ الإنجيل كثيراً، فكلمات الإنجيل تغيّر كما قال السيد المسيح لتلاميذه: “أنتم الآن أنقياء من أجل الكلام الذى كلّمتكم به” (يو 3:15). وأيضاً الإنجيل ينّقى.
الإنسان الذى يقترب من الإنجيل سوف يكتشف أن كلمات الله هى كلمات منيرة، معزّية، غاسلة، تعطى الإنسان نوعاً من التسامى. غاندى معروف عنه أنه قال: “إذا كان الإنجيل تاجاً، فالموعظة على الجبل
هى درّة هذا التاج” إنسان هندى لم يكن يعرف شيئاً عن المسيح، ولكنّه عندما قرأ الإنجيل إقترب من المسيح. كيف أستطيع أن أسمع صوتك يارب من خلال هذه الكلمات؟ لذلك تحرص كنائسنا على أن تتلو أمامنا فصولاً كثيرة (9 فصول يومياً).
كلمات الإنجيل هى التى غيّرت أنطونيوس المصرى بكلمات قليلة وجعلته يزهد العالم ويفكّر بالأبدية. ولم يكن أبداً إنساناً أنانياً أو إنطوائياً، ولكنه حينما تكّرس للمسيح بناء على الدعوة الإنجيلية، إستطاع أن يقود المئات والآلاف. وحتى اليوم الكثيرون يسمعون قصّته ويتأثرون.
فالإنجيل ياأحبائى أساسى جداً فى تشرّبنا للحياة المسيحية، وللفكر المسيحى.
أما الإفخارستيا فهى وسيلة يومية لهذا الإتحاد الصميمى الكيانى، ليس فقط بينى وبين المسيح (لأنه سيسكن فىّ)، بل بينى وبين أخوتى فى الكنيسة، فنحن جميعاً خبزة واحدة، ونشرب من كأس واحدة. الإنسان المسيحى حينما يقترب من الإفخارستيا، إنما هو بالضرورة يقترب من المسيح محّب العالم. “هكذا أحب الله العالم حتى بذل إبنه الوحيد” (يو 16:3). لهذا فحينما نتّحد بالإفخارستيا، نحن نتحّد ببعضنا، ونتّحد بالكون. ففيها نجد النبات كالقمح، ومنتجاته كالخمر، ويشترك الإنسان فى أن يسوّى هذا الخبز، ثم يدخله فى الأفران الخاصة وهكذا… هنالك جوقة اشتركت فى القداس الإلهى: الملائكة والقديسون حاضرون معنا. وهكذا نشعر بكونية الإنسان المسيحى، فهو منفتح على الكون كله وليس فقط على اخوته فى المسيحية.
ثم أنه بالخدمة نستطيع أن نتشبه بالمسيح. إذا ما تعذّر علينا الآن أن نلمس السيد المسيح له المجد، لنأخذ منه بركة كما أخذت النازفة، فنحن نستطيع نلمس المسيح من خلال أعضائه المتألمة والجريحة فيه. كم هنالك من أناس مطروحين اليوم، سواء كانوا معاقين، أو كانوا مرضى، أو كانوا مسنّين، أو حزانى لأى سبب.. وأنا كإنسان مسيحى كلما اقتربت من هذه الأعضاء الجريحة، إنما فى الواقع أنا أتلامس مع شخص المسيح الذى قال: “كنت مريضاً فزرتمونى، عطشاناً فسقيتمونى، مسجوناً فزرتمونى”إلخ..
ثالثا: ما هى نظرة المسيحى لقريبه؟ ومن هو القريب عندى؟
هذا الإنسان الذى أصبح متّحدً بالمسيح، نسأله من هو قريبك؟ يقول: أنا أحب بقلب المسيح، اسألوا المسيح إن كان يكره أحداً؟!! المسيح لا يعرف الكراهية، وهو يحّب كل العالم. المسيح يحب حتى أعدائه وصالبيه، فهو يعلم أن العدو الحقيقى ليس هو هذا الإنسان أو ذاك، ولكن فكرة الخطيئة، وفعل الشيطان، وإيحاءات شريرة موجودة فى الكون نتيجة تلوّث وفساد الطبيعة الأولى. هذا هو ما جعل الإنسان الآخر يعادينى، ولكننى أنا لا أعاديه، لأننى أعرف أنه إنسان مأسور لأعداء آخرين. العدو الحقيقى له ولى هو الشيطان. وهذا ما حدث مع القديس استفانوس أول الشهداء عندمـا رجموه، صلى وغفـر لقاتليه. فالإنسان كلما تسامى وأقترب مـن الله إتسع قلبه بالحب، وإستطـاع أن يحـب الجميع، لأنه يحب بقلب المسيح الساكن فيه، وبإمكانيات هذا القلب الغير محدودة، وبعمق هذا القلب ونظرته الثاقبة أن العدو الحقيقى يكمن وراء أخى وليس هو أخى، مهما كان هذا الأخ لأنه بالنهاية أخى.
الإنسان المسيحى يسلك مسيحياً لأنه يحب بقلب المسيح ويفكر بفكر المسيح. قبل أن يهاجم فكراً أورأياً أوعقيدة فإنه يحاول أن يرى مواضع الجمال ونواحى الخير فيها. يسمع عن نظريات إنسانية عامة، عدالة إجتماعية، أمور يشعر أنها تخدم البشرية، مستعد أن يفتح ذهنه ويدرسها ويقبلها أو أن ينتقدها بطريقة موضوعية، ويشاهد الجمالات التى فيها وإن كان فيها سلبية يبرزها أيضاً، لكن بقلب خال من الحقد، وبذهن خال من الإنغلاق.
الإنسان المسيحى له فكر مختلف لأنه مختلف لأنه يفكّر بفكر المسيح فكما قال معلمنا بولس: “فأما نحن فلنا فكر المسيح” (1كو 16:2).
الإنسان المسيحى يسلك بروح المسيح، لذلك فهو يقدم الحب، ويزرع الحب، وينشر الحب، فى كل مكان، لأنه فى الواقع لا يفعل شيئاً من ذاته ولا من قدراته، ولكنه ينقل حضرة المسيح المعزية المحيية المخلصة. وهكذا يستطيع أن يصنع شيئاً لأنه صار مسيحاً صغيراً بين الناس.