ولم يحبوا حياتهم

الرئيسية / ولم يحبوا حياتهم

من سيفصلنا عن محبة المسيح ؟ أشده ، أم ضيق ، أم اضطهاد ، أم جوع ، أم عرى ، أم خطر أم سيف !!؟ كما هو مكتوب : “إننا من أجلك نمات كل النهار . قد حسبنا مثل غنم للذبح . ولكننا فى هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذى أحبنا ؟ فإنى متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التى فى المسيح يسوع ربنا” (رو 35:8-39) .

من يتبع المسيح سيمشى فى طريق وعرة وضد التيار “ادخلوا من الباب الضيق … ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذى يؤدى إلى الحياة” (مت 13:7،14) ، “ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب … وتكونون مبغضين من الجميع من أجل أسمى” (مت 16:10،22) .

“ومن لا يأخذ صليبه ويتبعنى فلا يستحقنى من أضاع حياته من أجلى يجدها” (مت 38:10،39) . “إذ أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى ، فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلى يجدها” (مت 24:16،25) .

ومع ذلك فإن تيار المسيحية (ضد تيار العالم) لم ولن ينقطع ، بل لقد صمدت المسيحية ضد أعتى القوى وضد أبواب الجحيم .. إن ما تعرضت له الكنيسة على مر العصور كان كفيلاً بأن يقضى عليها لو أنها مؤسسة بشرية … ولكن نعمة الله الغنية العاملة فيها رفعتها فوق الزمان ونصرتها على الأحداث …
ترى ما الذى دفع الناس أن يتبعوا المسيح ويتمسكوا به ويحبوه هكذا حتى الموت ؟ … ما الذى يدفع بإنسان أن يسلك طريقاً وعرة تؤول إلى عزاب وحرمان من متع العالم الحسية فى النهاية الموت العنيف ؟

لم يكن الاستشهاد – ثم الرهبنة أو جهاد الخدمة والنسك – تهورا أو اندفاعاً عاطفياً من المسيحيين ، ولم يكن نوعاً من التعب والتمسك الأعمى بقيم ومبادئ وفقط … لكن كان الاستشهاد أعمق من هذا بكثير … فما الذى شجع المسيحيين ودفعهم للاستشهاد ؟!

1- المعمودية :

إن المعمودية المقدسة هى السر الباطنى الذى يعمل فينا بقوة ويدفعنا نحو الاستشهاد وذلك بسبب :

أ- مجد الشيطان : فالبديل الوحيد للاستشهاد هو عبادة الشيطان فكيف نعبر من مجدناه فى المعمودية ؟ .. كيف ننكث عهدنا ونتقهقر إلى الضياع بعد أن أدرنا ظهورنا للظلمة والموت والشيطان كيف نجن وننكر اعترافنا بالمسيح إلهنا المحب؟ إن الموت بكل سطوته وعنفه أهون علينا من أن نرجع إلى الشيطان بعد تقيئناه فى المعمودية .
ب- الموت الذى جزناه فى المعمودية : “مدفونين معه فى المعمودية” (كو12:2) ، “نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها ؟ أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؟ . فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً فى حدة الخياط. لأنه لمن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته” (رو2:6-5) ، هذه المعمودية إلى متنا فيها جعلتنا فوق تهديد الموت وأسمى من رعبه القبر، “مبارك ومقدس من له نصيب فى القيامة الأولى (المعمودية) وهؤلاء ليس للموت الثانى سلطان عليهم” (رو6:20) ، فمن ذا الذى يخاف من الموت وقد جازه فى المعمودية ، ولم يعد الموت بالنسبة لنا موتاً بل انتقالاً (أوشية الراقدين) .

ج- الإنسان الجديد الذى آخذناه فى المعمودية : “الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله فى البر وقداسة الحق” (أف 24:4) ، هذا الإنسان المنتمى إلى السماوات والذى يشتاق إلى السموات “لى أشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً” (فى 23:1) الإنسان الذى يعتبر سكناه هنا غربة . “نحن واثقون كل حين وعالمون إننا ونحن مستوطنون فى الجسد فنحن متغربون عن الرب .. فنثق ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب” (2كو6:5،8) .

كيف لإنسان مثل هذا أن يهاب الموت وهو يشتهيه ويعلم “إنه إن نقص بيت ضميتنا الأرض (الجسد الترابى) فلنا في السموات بناء من الله (الجسد الروحانى الذى أخذناه في المعمودية) بيت غير مصنوع بيد. أبدى” (2كو1:5) ، “فإن سيرتنا (مواطنتنا) نحن هى فى السموات” (فى20:3) … إن المسيحيى الحقيقى يشتاق دائماً للعودة إلى مكانه الأصلى السموات التى انتمى إليها بالمعمودية .

2- الأفخارستيا :

والأفخارستيا وقود يلهب نار المعمودية فينا فلا تنطفئ أبداً ، وبها نأخذ :

أ- الخلود : “أنا هو خبز الحياة … هذا هو الخبز النازل من السماء لكى يأكل منه الإنسان ولا يموت . أنا هو الخبز الحى الذى نزل من السماء . إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد . والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم … الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم . من يأكل جسدى ويشرب دمى فله حياة أبدية ، وأنا أقيمه فى اليوم الأخير … فمن يأكلنى فهو يحيا بى … من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد” (يو48-58) . إن من يأكل جسد الرب ويشرب دمه يخرج من الكنيسة وقد امتلأ بالحياة … الحياة الحقيقية التى تهزأ بأى تهديد للموت وتستهين بكل ألم … فقوة الخلود التى نأخذها فى الافخارستيا أقوى من كل قوات الجحيم … ففينا يكون المسيح نفسه “الذى أقام الله ناقضاً أوجاع الموت إذ لم يكن ممكناً أن يمسك منه (من الموت)” (أع 24:2) فالمسيح هو حياتنا كلنا (أوشية الإنجيل) فإذا اقتنيناه فينا بالافخارستيا تصير فينا الحياة التى لا يغلبها موت الاستشهاد أو الموت الطبيعى …

ب- الثبات فى المسيح : “من يأكل جسدى ويشرب دمى يثبت فى وأنا فيه” (يو56:6) هذا الثبات يؤول إلى قوة وإثمار “الذى يثبت فى وأنا فيه هذا يأتى بثمر كثير . لأنكم بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً” (يو5:15) ، “إن ثبتم فى وثبت كلامى فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم” (يو7:15) وتصير للشهيد قوة المسيح “إن كان الله معنا فمن علينا ؟” (رو31:8) .
ج- غفران الخطايا : “يعطى عنا خلاصاً وغفران للخطايا وحياتاً أبدية لمن يتناول منه القداس”. إن ما يزعج الإنسان ويجعله يخاف الموت هو الخطية التى تفقدنا سلامنا وثقتنا وتهدد مستقبلنا الأبدى … فإذا كنا ننال كل يوم الغفران بدم المسيح فى الافخارستيا فما الذى يرعبنا من الموت ، أو يهدد أمننا وسلامنا … فالمسيح هو غفران خطايانا وخلاصنا … لذلك فنحن نتقدم للموت بخطوات ثابتة واثقين فى مراحم الرب الصادقة وغفرانه الأكيد بدمه الثمين فى الافخارستيا .
3- التعليم الكنسى :

والتعليم الكنسى فى كنيستنا هدفه أعداد المؤمنين للشهادة (الخطاة الذين تابوا عدهم مع مؤمنيك . مؤمنوك عدهم مع شهدائك) القداس الغريغورى.

لقد علم الآباء أن الاستشهاد هو كمال المحبة وأنه أحد البراهين على صدق المسيحية إذ أن احتقار الموت لدى الشهداء يدل على أنهم حطموا قوى الشر التى كانت تستخدم الموت كأداتها للتعذيب ، وكان القديسون يتبارون فى اشتهاء الاستشهاد مثل اغناطيوس الانطاكى ، وبطرس خاتم الشهداء وغيرهما حاسبين أن الاستشهاد هو أقدس مهام الإنسان المسيحى ، حيث يظهر به شوقه للاتحاد بالله . لذلك فالشهيد فى الكنيسة ينال تطويب خاص ، أكثر من كل القديسين (راجع مجمع التسبحة حيث يترتب كالآتى : العذراء – الملائكة – الأنبياء – الرسل – الشهداء – القديسون – البطاركة) … فأى فرح أعظم من فرح الاستشهاد . وقال أحد الآباء “افضل ما يحل بنا هو أن يكون لنا موت الشهيد” .

وكان رعاة الكنيسة يحفزون أولادهم على قبول الاستشهاد كواجب حتمى على كل مسيحى حقيقى يحب الله ويرغب فى الاتحاد به . ولكنهم كانوا أيضاً يحذرونهم من إثارة الحكام ورجال الدولة ، والجند بتهور سعياً وراء الاضطهاد … فالمسيحى لا يهاب الموت ولكنه لا يطلبه بتعجل كمن ينتحر .

لقد علم الآباء أن الاستشهاد هو شركة فى صليب المسيح وممارسة للحياة الإنجيلية واستجلاب ليد الله وحضوره كما فى الأتون مع الفتية القديسين وفى الجب مع دانيال … وبالاستشهاد نصير أخوة للرسل ومحصنين معهم .. وبالأجمال فالاستشهاد فى نظر الآباء هو معبر إلى المجد الأبدى “آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد إن يستعلن فينا” (رو18:8) .
بذلك كانت الكنيسة تشجع أبناءها على قبول الاستشهاد بفرح وحب وشغف عظيم .

وأرينا شهادة مبكرة للعلامة أوريجانوس تصف حماس المسيحيين للاستشهاد إذ يقول : “إذ عاد المسيحيون من المقابر بعد أن حملوا أجساد الشهداء القديسين إلى مدافنهم ، اجتمعوا فى الكنيسة للصلاة وكانت تظهر عليهم علامات القداسة . كان الجسد المسيحى (يقصد جماعة المؤمنين) كله هناك . ولم يبدو الخوف على أى منهم . هناك كان الموعوظون يتكلمون الدس العملى ، باستماعهم إلى تقارير عما قاله الشهداء القديسون لقضاتهم ، وثباتهم فى اعترافهم بإيمانهم حتى لحظة موتهم . أنى أعرف رجالاً ونساء مسيحيين ممن شهدوا أموراً غريبة حدثت فى تلك الاجتماعات تصل إلى معجزات حقيقية” .

أحبائى الشباب :

إن الكنيسة لم تتغير والروح القدس لن ينحجب بل كل مقومات الشهادة كائن فينا فإذا لم تتح لنا فرصة الاستشهاد بالدم فعلينا ألا نفوت فرصة الإقامة اليومية بالنسك والتعب من أجل المسيح وبذل الذات من أجل الآخرين وإلا نستنجد أنفسنا معرضين لخطر الارتداد فى ساعة التجربة ..

الأنبا رافائيل

مشاركة المقال