الصلاة و تنقية النفس
كما أنه لا يمكن صب الأعمدة مع وجود أتربة بين العمود والقاعدة، كذلك لابد من أن نعرف أن طريق التنقية أو النقاوة يكون قبل أى بناء. وطريق التنقية يكون بالصلاة. الصلاة هى العمل الداخلى بالنعمة داخل القلب، والصلاة هى أكسير الحياة الروحية، وهى الحبل السرى الذى يربطنا بالله، نستمد الغذاء منه. الإنسان بدون صلاة مثل دورق مياه بدون ماء أى كوب فارغة. وعاء مغلق وفارغ وضع تحت حنفية لا يمتلئ.
“رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِىٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّى وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّى رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ. فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ، وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا. فَقُلْتُ: وَيْلٌ لِى! إِنِّى هَلَكْتُ، لأَنِّى إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَىَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ. فَطَارَ إِلَىَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ، وَمَسَّ بِهَا فَمِى وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ، فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ، وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ” (إش 1:6-7).
الصلاة وآثرها:
1- طريق التنقية. 2- مساحات التنقية. 3- أساسات التنقية.
1- طريق التنقية:
– ما الذى نقى إشعياء .. دخل يصلى.. أشرق عليه مجد الله.. رأى خطاياه.. رأى نفسه.. فانسحق وانكسر وأخذ من الجمرة التى على المذبح وطُهر.
– بطرس : عندما أعطى المركب للسيد المسيح ليدخلها ويكلم الشعب وهو فيها.. وعظ السيد المسيح، وبطرس سامع، ومتعب من السهر، وفى النهاية عندما أعطاهم الله سمك كثير. ورأى معلمنا بطرس مجد الله، قال له: “اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِى يَارَبُّ، لأَنِّى رَجُلٌ خَاطِئٌ!” (لو 8:5).
– أيوب : كل السفر كان يبرر نفسه “لِيَزِنِّى فِى مِيزَانِ الْحَقِّ” (أى 6:31)، هو بار فى عينى نفسه، وعندما كان يقال له إن ما حصل له هو بسبب خطيته كان يرفض هذا، وفى النهاية شعر أنه فعلاً فيه شئ خاطئ، وشعر بخطيته، لذلك رأى الله، وقال فى آخر السفر عندما أظهر الله مجده له: “بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِى. لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِى التُّرَابِ وَالرَّمَادِ” (أى 5:42-6).
فالصلاة تعطينا مواجهة مع الله، أرى مجد الله، أرى قدسية وقداسة الله اللانهائية، وأرى أننى خاطئ، فانكسر وانسحق وأقول: ويل لى لأنى إنسان نجس الشفتين، أمام هذا الإتضاع يطهرنى الله بنار المذبح، والأسرار المقدسة عند معرفة ذاتى. فقداسة وقدسية الله مثل كشاف النور، الذى يرينى مجد الله ويرينى مساوئ نفسى.
– رب المجد نفسه : أثناء التجلى يذكر عنه معلمنا لوقا أنه “وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّى صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لاَمِعًا” (لو 29:9)، فهذا درس أن الاتصال بالله يغير الهيئة، ليس من الداخل فقط ولكن من الخارج أيضًا. فطريق النقاوة لاشك أنه الصلاة التى تعطى نوع من الاستنارة والتطهير، لأن الصلاة تكشف لى مجد الله.. أشعر برداءة نفسى فتجعلنى أنسحق فى التراب.
2- مساحات التنقية:
تنقية النفس كلمة عامة تعنى الإنسان كله. يتنقى الإنسان برشومات الميرون التى تطهر المساحات فى الإنسان التى تحتاج إلى تنقية.
– أول رشم: على الرأس لتنقية الفكر.
– الرشم من 2-8: على المنخارين والعينين والأذنين والفم، لتنقية الحواس.
– الرشم 9،10: على القلب والأحشاء، لتنقية المشاعر.
– الرشم 11،12: على الظهر والصلب، لتنقية الإرادة.
– 12 رشمة: على اليدين 2 فى كل مفصل، لتنقية الأعمال.
– 12 رشمة: على الرجلين 2 فى كل مفصل، لتنقية التوجهات والطريق والخطوات.
لو تأملنا فى هذه المساحات نجد أنها تحتاج العمر كله.
1- الفكر : حينما يمتلئ فكرى بالقديسين، يحل الفكر المقدس بدل الفكر السلبى، تنقية الفكر قضية كبيرة تستغرق العمر كله. اضبط نفسى متلبسًا باتجاه فكر معين: حروب إدانة – ذات – كبرياء – أفكار تشكيك – أى شئ سلبى يأتى بفكرى، حتى يكون فكرنا مقدس بنعمة المسيح “وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الْمَسِيحِ” (1كو 16:2). التنقية مثل Draining الدرنئة التى تسحب أى صديد وسوائل من الجروح. فنحن نقدم فكرنا لله “اخْتَبِرْنِى يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِى. امْتَحِنِّى وَاعْرِفْ أَفْكَارِى” (مز 23:139).
2- الحواس : ألاحظ حواسى، لأنها هى النوافذ الذى يدخل منها الشيطان، لذلك يقول المرنم داود: “سَبِّحِى يَا أُورُشَلِيمُ الرَّبَّ. سَبِّحِى إِلَهَكِ يَا صِهْيَوْنُ. لأَنَّهُ قَدْ شَدَّدَ عَوَارِضَ أَبْوَابِكِ. بَارَكَ أَبْنَاءَكِ دَاخِلَكِ” (مز 12:147-13).. البنين هم الفضائل. فنسأل أنفسنا يا ترى حواسى كيف تتجه؟.. ونجاهد فى نقاوة الحواس.
3- المشاعر : أسأل نفسى هل مشاعرى صافية وكلها محبة للكل. يُحكى أن أحد الأشخاص شنع به آخر فى الجرائد لأنه ناجح فى خدمته، فقال لله: “أن هذا الشخص سيعطل خدمتى”، فأجاب عليه ربنا وقال له: “أتظن أنه بالتشنيع عنك والكلام ضدك يعطل الخدمة، إن الذى سوف يعطل الخدمة هو إدخال عدم المحبة فى قلبك، بالتالى إن دخلت عدم المحبة سأتركك”. فلو دخلت الكراهية من الباب يخرج الرب من الشباك. يجب أن لا تتلوث المشاعر بالكراهية، أعاتب بمحبة حتى لا تتسرب الكراهية. ممكن نوجه ونعاتب بمحبة، وممكن نجازى بهدف الإصلاح، فى وجود المحبة الكاملة “الَّذِى ُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ” (أم 12:3). لابد من ملاحظة العلاقات بين الأخوة، أو بين الأخوات، ومع المخدومين، وكل الذين أتعامل معهم. ممكن نختلف.. ممكن نتعاتب.. لكن بكل حب. لو دخلت الكراهية خرج المسيح.
4- مساحة الإرادة (صليبان على الظهر) : كيف تسير وفى أى اتجاه؟ “هَذِهِ هِى إِرَادَةُ اللهِ: قَدَاسَتُكُمْ” (1تس 3:4)، “الَّذِى يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ” (1تى 4:2)..
هل إرادتى تسير وفق إرادة الله؟ هل لدىّ تسليم للرب فى كل ظروف حياتى؟
هل أسير بإرادة الله أم بإرادتى الخاصة؟.. الذى يعيش بإرادته الخاصة متمسكًا بهواه يحتاج مراجعة مع نفسه وتعديل سلوكه هذا.
لذلك ففى الرهبنة ما يسمى قطع الهوى وقطع المشيئة. مشيئة الله هى التى تنفعنى وليس مشيئتى الخاصة “أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا. أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ” (مز 10:19). حينئذ نرنم: “سَلَّمْنَا، فَصِرْنَا نُحْمَلُ” (أع 15:27) قطع الهوى من أهم الممارسات والتداريب التكريسية. تسليم المشيئة مهم جدًا، فكيف نُسَلِّم فنُحمل؟
وكما قال أحد الآباء: المشيئة الذاتية هى الجحيم، جحيم الذات، جحيم الانفصال عن الله. يجب أن أترك الله يملك حياتى بتسليم كامل له، من خلال قطع المشيئة “لتكن مشيئتك”. ربنا يخطط ونحن نسلم مشيئتنا له. فهو مثل الفخرانى الذى يشكل العجينة فى يده، فأتركه يعمل ويملك حياتى.. ويدعوه كل منا قائلاً: “افعل بى ما تريد”.
الله أرى إرميا الفخرانى. صنع إناء ثم أعاده ثانية وقال له ربنا: “أنا أعيدك ثانية”. كما يقال تعبير يملك العجين أى يتملك منه ويشكله الإنسان كما يشاء، كذلك نريد أن المسيح يملك علينا، ويتملك منا، ويشكلنا كم يشاء.
5- مساحة الأعمال (12 صليب على مفاصل اليدين) : فنحن نؤمن بالأعمال الصالحة: فى كلامى، فى تصرفاتى فى الأمور، فى مواقفى، وهذه مساحة أخرى تحتاج تنقية فى حياتنا “لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ” (1يو 18:3). المثل القائل: (اسمع كلامك اصدق أشوف أعمالك أتعجب)، ليس المهم الكلام بل أعمالى.. “لِكَىْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِى فِى السَّمَاوَاتِ” (مت 16:5).. اسأل نفسى هل أقدم ذبائح حب؟ وما هى الأعمال الخاطئة التى تعثر الناس؟!.
6- مساحة التوجهات (12 صليب على مفاصل الرجل) : وهى مساحة تحتاج إلى تنقية ومحاسبة. ما هى اتجاهاتى، هل اتجاه (ذاتى – حسى – مالى – فكرى – عملى.. إلخ)؟ أنواع اتجاهات كثيرة. ما هو اتجاهنا؟ البوصلة على من تشير؟ يجب أن يكون إتجاهنا هو المسيح، ليس الخدمة ولا التكريس ولا الطريق ولا البشر، لكن الهدف يكون المسيح. فيكون كل شئ مثل العلاقات، الاتجاهات، السلوك، المشاعر تكون سليمة عندما تسير من خلال المسيح.
القديس موسى الأسود قال: إنشغل بالمسيح ينشغل المسيح بأمورك الخاصة. انشغل بربنا، واترك ربنا ينشغل بكل أمورك الخاصة. كلما تكرس القلب للمسيح وأصبح المسيح عريس النفس الحقيقى والوحيد والنهائى، بالتالى كل شئ يتقدس بسبب حضور وسكنى ومُلك المسيح على الإنسان.
3- أساسيات للتنقية
هناك مبادئ أساسية للتنقية :
1- الصدق : تريد أم لا تريد. كثيرون ساروا خلف المسيح، لكن لم يأتمنهم على نفسه لأنه علم ما كان بالإنسان. كثير مَنْ سار وراءه لمجده الذاتى – لأموال – للجلوس عن اليمين واليسار – لابد من الصدق بأن يكون الرب هو الكل فى الكل، لأنه لا يقدر أن ينقيك إذا تمسكت بشىء. فدورنا مع النعمة – أننا نجاهد. مدى الصدق فى طلب التنقية، فأترك الرب يعمل فيك بحرية.
يذكر الأب ليف جيليه أن المسيح دخل ليزور بيت، فرحب به صاحب البيت، واستقبله فى أنظف مكان فى غرفة الضيوف، فطلب منه الرب أن يزور بقية الغرف، لكن صاحب البيت رفض أن يدخل الله غرفة الكرار، إلا أن الله طلبها لكى ينظفها.. ربنا يريد تسليم النفس ككل له، ليطهرها إلى التمام. طالما تعطى فرصة لربنا يطهر كل الإنسان. فهو يريد كل مساحات النفس ليطهرها:
(من لا يأتمنى على كل شئ فلا يأتمنى على أى شئ) لابد من الصدق مع الله، مع النفس، مع أب الاعتراف “إِنْ رَاعَيْتُ إِثْمًا فِى قَلْبِى لاَ يَسْتَمِعُ لِىَ الرَّبُّ” (مز 18:66)، طالما أرعى الإثم الذى داخلى لا يسمع لى الرب.
2- الصبر : الإنسان بالتدريج والتدريب والصبر ينظف جزء جزء من داخله. فى بستان الرهبان قال الرئيس للراهب أن ينظف حقل من الحشائش، بعد شهر وجد الرئيس الحقل كما كان فسأل الراهب فأجابه أن الحقل كبير كيف يقوم بكل هذا، وهنا رد الرئيس قائلاً: (لو نظفت كل يوم قدر مرقدك لكان نظف الحقل كله).
3- المثابرة : لا نقاوة بدون جهاد، ومثابرة، وصمود، وملاحظة، واعتراف أمين، ومحاسبة نفسى يوميًا. ألاحظ نفسى قبل الخطأ وأثناء الخطأ، وبعد الخطأ. ولا نيأس، بل نكون صادقين مع الله بصبر ومثابرة. والصديق لا يهدأ ولا ينام إلى أن يجد موضعًا للرب.
خلاصة: للحصول على النقاوة :
– الإقتراب من الله لكى ينكشف الإنسان.
– يحاسب الإنسان نفسه فى المساحات الستة.
– لا نيأس أبدًا بل نكون صادقين مع الله، ومع أب الاعتراف، ومع أنفسنا.
– أن نكون صبورين “أن الموضوع محتاج جهاد ويستغرق طول العمر”.
– أن نكون مثابرين كالصديق “لاَ أَدْخُلُ خَيْمَةَ بَيْتِى. لاَ أَصْعَدُ عَلَى سَرِيرِ فِرَاشِى. لاَ أُعْطِى وَسَنًا لِعَيْنَىَّ وَلاَ نَوْماً لأَجْفَانِى. أَوْ أَجِدَ مَقَامًا لِلرَّبِّ” (مز 3:132-4).